الوهم يتحدّى الواقع ويجني أرباحًا خيالية

غالبًا ما يجنح الإنسان في عالمنا اليوم، وفي كل زمن، إلى الخيال، إذا ما كان واقعه مريرًا ليوهم نفسه أنه يعيش في مكان وزمان ربما مغايرين لنمط حياته المقلق والذي يسوده الخوف والريبة من حاضر حزين وكئيب ومستقبل مجهول يكتنفه الإحباط واليأس. فيرسم لذاته واقعًا في مخيّلته يوحي له بأنه يسكن أجمل القصور وأفخرها ويقود مجموعة من السيارات الفارهة وما الى ذلك حتى يرفّه عن نفسه عسى أن يتحقق شيء من ذلك ليعيد شحن طاقته ليكمل نمط حياة مليء بالأرق علّه يتمكّن من تخطي ما يعصف به من أزمات مالية ومعيشية وحياتية واقتصادية واجتماعية...
هذه المقدمة ربما تقودنا لما تشهده أسواق العملات النقدية والتي ذهبت إلى أبعد من الخيال حتى بلغت حدّ الجنون... نعم جنون العملات الرقمية المشفّرة المستمرّ مع تسجيل بعضها مكاسب خيالية في غضون أيام قليلة.
اذ يتمّ استثمار مليارات من الدولارات في هذه العملات، بعدما تجدّد الاهتمام بها مؤخرًا من جانب شركات كبرى ومن أصحاب الثروات ايضًا. على الرغم من أن بعضها موجود في الأسواق منذ عشر سنوات فلماذا الآن؟!
كان يكفي الملياردير الشهير إيلون ماسك مؤسس شركة "Tesla" لصناعة السيارات الكهربائية ان ينشر صورة على حسابه على تويتر الخميس الماضي ليُلهب أسواق العملات الرقمية المشفّرة حول العالم.
ولعلّ صورته المركّبة على جسد قرد وهو يحمل كلبًا، المستوحاة من فيلم الرسوم المتحركة الأسد الملك أو "The Lion King" قصد بها على طريقة الفيلم الترحيب بالقادم الجديد إلى سوق العملات الرقمية وهي عملة "دودجكوين" Dogecoin التي كان قد اطلقها زوجان يعملان في برمجة الكومبيوتر على سبيل كمزحة عام 2013 باعتبارها بديلاً كوميديًا لعملة الـ"بيتكوين" BITCOIN الشهيرة. فما كان من هذا الترحيب إلا أن حوّل عملة "دودجكوين" Dogecoin المغمورة إلى محطّ إهتمام العديد من المستثمرين والبورصات في العالم لتقفز قيمتها بنسبة تخطت 130% في غضون أيام قليلة.
هذا الارتفاع لم يقتصر على "دودجكوين" وحدها بل انسحب على عملات مشفّرة أخرى، لا سيما عملة الـ"بيتكوين" التي قفزت بدورها بنحو 24% منذ أسبوع لتسجّل مستوىً قياسيًّا جديدًا حتى باتت تلامس 50 ألف دولار لكل "بيتكوين" واحدة. بعدما اعلنت شركة "Tesla" نفسها التي يقودها ماسك أنها استثمرت مليارًا ونصف المليار دولار في هذه العملة الشهر الماضي.
لكن أحدًا اليوم يمكنه الجزم ما اذا كانت هذه الارتفاعات مجرّد فقاعة قد تتلاشى قريبًا أو لا. وان كان كثيرٌ من المحللين يرجّحون أن تسجّل العملات الرقمية المزيد من المكاسب مستقبلاً، خصوصًا مع إعلان شركات كبرى مثل "Tesla" و"Ford" و"Microsoft" و"PayPal" وسواها عن قبولها للمدفوعات بهذه العملات، فيما يقول إيلون ماسك، الذي تخطط شركته الأخرى "SPACEX" لنقل البشر إلى المريخ، إن الإقتصاد على الكوكب الأحمر يمكن أن يعتمد على العملات الرقمية المشفّرة.
بالعودة إلى عالم الواقع، في الماضي، منذ أكثر من 150 عامًا تقريبًا ذهب أجدادنا إلى المكسيك وكاليفورنيا اللتين شهدتا نهمًا متعاظمًا من الإقبال على جني الذهب والإتيان به واستثماره في مجال العقارات الذي يعتبر ملاذًا استثماريًّا آمنًا.
أما ما يقوم به ماسك وأمثاله من المدراء التنفيذيين لشركات عملاقة من اختلاق قصص من نسج الخيال ويديرون بذلك محافظ مالية واسهمًا تقّدر بمئات المليارات من الدولارات لمستثمرين حول العالم وايهامهم أنها ستعود عليهم بأرباح خيالية يشكّل ضربًا من الجنون. صحيح أنه قد يحققون ارباحًا مذهلة ولكن بموازاة ذلك هامش الخطورة مرتفع جدًّا حيث لا تعويض!
في المقابل، يتساءل خبراء سياسيون لماذا لا يوضع ما بات يسمى بتأثير إيلون ماسك في إطار سعيه لإنشاء نظام مالي خاص وبعيدًا من المصارف المركزية، حيث يكون الذهب فيه ممثلاً بالبيتكوين ويتم تداول عملة الدودجكوين التي بمتناول الجميع ويمكن شراؤه بعدما أصبح سعرها سبعة سنتات. ألا يعزز ذلك من هذه الاحتمالية أم لا؟
صحيح أنه يجب أن يكون هناك حدود للعملات الرقمية، ولكن تقابلها رغبة في ذلك، تحديدًا ممّن كانوا يحذّرون منها في السابق على غرار الشركات العالمية مثل "BlackRock" المتخصصة بإدارة الاستثمارات والأصول ومصارف مثل "JPMorgan" ومنصة التواصل الاجتماعي الشهيرة "Facebook" التي أطلقت عملتها الرقمية الخاصة بها "Libra".

والجدير بالذكر أن JPMorgan قام بشراء العملة الرقمية "Coinbase" إحدى أكبر منصات تداول العملات الرقمية ومستخدميها ما يعكس اهتمامًا من مؤسسة كبيرة، الأمر الذي كان مستحيلاً في السابق. اذ لطالما عبّر رجل الأعمال وأبرز أثرياء العالم وارين بافيت، عن سخطه تجاه العملات الرقمية، رافضًا وجودها أساسًا. إلا أن غياب أو فشل المصارف المركزية التي وعدت، منذ ثلالة أعوام، بأنها ستصدر عملة رقمية محكومة بالنظم والقوانين، هو ما فتح الباب أمام هكذا سيناريو!
ولعل ذلك يطرح تساؤلاتٍ لدى الخبراء حول تأخر المصارف المركزية بإطلاق هذه العملات ويعزون السبب لقرار سياسي أكثر منه اقتصادي نتيجة هيمنة الدولار كإحدى الأدوات الضاغطة، علمًا أنه بات واضحًا الحاجة لعملة رقمية التي تخضع أساسًا لتقنية البلوكشين. وهي تقنية لتخزين والتحقق من صحة وترخيص التعاملات الرقمية في الأنترنت بدرجة أمان وتشفير عاليتين قد يكون من المستحيل كسرها في ظل التقنيات المتوفرة اليوم.
في الختام، نتساءل هل هناك توجّه عالمي كبير الآن لدخول المؤسسات المالية والمصرفية إلى هذا الفضاء الإلكتروني وقام ماسك باستباق ذلك؟! وهل نشهد اليوم ضغطًا على كبريات بنوك العالم والحديث هنا عن أميركا ودفعها لتتبنى إحدى العملات الرقمية الموجودة في السوق أو حثّها لإصدار عملة رقمية خاصة بها ؟!
هل صحيح أن لدى الإنسان عمومًا والمستثمرين خصوصًا نوايا دفينة لمغادرة كوكب الأرض والتوجّه إلى المريخ بعدما عاثوا في هذه المعمورة فسادًا وخرابًا. وذلك يبرز البحث الدائم عن محيط جديد للسكن. وماذا بعد المريخ؟!