الياس الحصروني وبجّاني الثاني: سقطات في الدم

كما لو أنّ البلاد المصابة بدوخة رئاسية، وفراغ مسيحي عقيم، لم تحتمل الانعطافة الكبيرة على "كوع" الكحّالة، فسقطت شاحنة الاستقرار المذهبي والطائفي وسقط معها قتيلان من الطرفين: أهالي المنطقة، والحزب.
لم تكد تمرّ ساعات على اكتشاف عملية اغتيال الياس الحصروني، المسؤول في القوات اللبنانية ببلدة عين إبل في الجنوب، حتى صوّب عناصر من الحزب سلاحهم في الكحّالة فسقط فادي بجّاني، ربّ العائلة العونيّة، في تبادل إطلاق للنار. بين عين إبل والكحّالة اجتمع قواتيون وعونيون في الخسارة.
فادي بجّاني، وهو من عائلة المصوّر جو بجّاني الذي اغتيل مثله على مقربة من مكان قتله، وأمام الكاميرات أيضاً، هو والد موظّفة في تلفزيون otv، وابنه أحد مسؤولي التيار الوطني الحر في كندا.
وعليه، بات موقف الحزب صعباً، بعدما جاء أوّل الردود نيراناً صديقة على لسان نائب المنطقة العوني سيزار أبي خليل الذي وصف بيان الحزب، الذي قال عن أهالي الكحّالة بأنّهم ميليشيا، بأنّه يجافي الحقيقة.

إرث 7 أيّار
منذ السابع من أيار ثمّة ما انكسر بين الحزب والقوى اللبنانية الأخرى. بات السلاح يصنع السياسة. إضافة إلى ذلك برز أداء الحزب في وجه انتفاضة 17 تشرين، ثمّ جاء تفجير المرفأ... وبينها مرّت أحداث خلدة وشاحنة شويّا. وحتى اليوم تأخذ في الارتفاع حدّة الخطاب الرافض للحزب ودوره في الداخل اللبناني.

برز ذلك مجدّداً في أحداث الطيّونة على خلفيّة "تعطيل" الحزب للتحقيق، ثمّ برز بشكل متفرّق في المناطق، بدءاً من منطقة شويا وصولاً إلى صيدا، واليوم يبرز على كوع الكحّالة في صورة توثّق إطلاق نار لعناصر من الحزب أمام كنيسة الكحّالة، وهي المنطقة التي لها دلالاتها منذ الحرب اللبنانية حتى اليوم.
لا يُحسد الحزب على سقطاته المتتالية في وقت آن له فيه أن يدرك أنّ البيئة اللبنانية بطوائفها المختلفة لم تعد حاضنة له، وأن يتواضع بعيداً عن منطق المؤامرات "الصهيونية" لأنّ فادي بجاني الذي قُتل أمام كنيسة الكحّالة الملاصقة لمنزله، ليس "صهيونياً" وليس "قوّاتياً" وليس "عنصراً في ميليشيا"، بل هو مناصر للتيار الوطني الحر بعدما كان في الحرب مع إيلي حبيقة.

كوع الكحّالة ومقتل بجّاني
في ساعات الليل أصدر الحزب بياناً قرأ فيه أهل الكحّالة استفزازاً على اعتبار أنّ إطلاق النار بدأ قبل أن يقرّر بجّاني الخروج من منزله مع سلاحه إلى حائط الكنيسة حيث كان عناصر الحزب منتشرين بسلاحهم ويطلقون النار بعد حصول الإشكال حول الشاحنة، وعلى اعتبار أنّ بجّاني، مريض السرطان الذي أمضت عائلته أشهراً في البحث عن علاج له في ظلّ الأزمة الراهنة، ليس من "ميليشيا المنطقة"، كما قال بيان الحزب. في المقابل، كان لهذه الشاحنة أن تمرّ مرور الكرام كما فعلت سابقاتها على الطريق الدولية لولا سقوطها. وفي المعلومات أنّ سقوطها لم يتبعه أيّ إشكال، بل كان أهل المنطقة يحاولون مساعدة السائق. إنّما الإشكال بدأ مع وصول عناصر الحزب المرافقة وملاحظة الأهالي أنّ الشاحنة "مشبوهة".

يقول البعض إنّ من الطبيعي أن يحمل الحزب أسلحة في آليّاته وأن يمرّ بها على الطريق الدولي. غير أنّ الواقع أمر آخر. فواقع الشارع يشير إلى توتّر سياسي أمنيّ اجتماعي بالغ. والأحداث المتتالية في السنوات الماضية لم تترك بيئة مساعدة للحزب وآليّاته. فكيف إذا كانت هذه الآليّة تحمل ذخائر لا تُستخدم في الصراع مع إسرائيل.
قالت إحداهن أمام عدسة الكاميرا ليل الحادثة: "لماذا يأخذون الذخائر إلى بيروت؟ المقاومة هي في الجنوب ضدّ العدوّ الإسرائيلي وليس في بيروت". هذا السؤال يُطرح بجدّية وسط معلومات تحدّثت عن نقل هذه الذخائر إلى مخيّم عين الحلوة. وهنا لا بدّ من طرح أكثر من علامة استفهام.

هل هذه الذخيرة لبيروت أم للمخيّم؟ ولماذا؟
إذا كانت لبيروت فإنّها تعيد إحياء ذاكرة السابع من أيار، وإذا كانت للمخيّم فلِمَن؟ لأيّ فصيل؟ لـ"فتح"؟ علاقة الحزب بحركة فتح سيّئة. للمنظّمات الإسلامية المعادية لـ"فتح"؟ لماذا؟ هل يساهم الحزب في المعركة ضدّ "فتح"؟ وإذا لم تكن أيّ من هذه النظريات صحيحة، فلماذا تمرّ شاحنة ذخائر عبر الطريق الدولي إلى بيروت؟

رمزيّة الطيّونة والكحّالة
بعد أحداث الطيّونة كتبنا في "أساس" مقالاً عن أنّ "المسيحيين عند الخطر كلّهم قوّات". يومها رأى البعض هذا الكلام مجافياً للواقع. بعيداً عن الاختلال بموازين القوى بين الحزب والأحزاب الأخرى، يبدو اليوم المشهد في الكحّالة مماثلاً. الكحّالة صاحبة الرمزية المشابهة لعين الرمّانة. هذه المرّة العائلة العونية التي تنتخب نواب التيار الوطني الحر في المنطقة حملت سلاحها في منزلها وقُتل بجّاني على درج كنيستها. هذه ليست مصادفة. بل لهذه الحادثة دلالة في السياسة أيضاً. ارتفع منسوب التوتّر بين الحزب والقوى اللبنانية المختلفة بعد تكرار الحوادث المتفرّقة، وأصبح يقيناً أنّ الحزب يواجه حالة تمرّد عليه في عدد من المناطق التي تمرّ آليّاته عبرها. إلا أنّ اللافت في الكحّالة اليوم هو الإصرار على حماية حمولة الشاحنة عبر إطلاق النار على من حاول التقدّم إليها، في الوقت الذي تركت فيه شاحنة شويّا وعلى متنها راجمة صواريخ. فما الذي استدعى هذا الدفاع عن الحمولة إذا كانت تحوي ذخائر لأسلحة خفيفة؟

سقوط مفاوضات باسيل-الحزب على كوع الكحّالة
ليس بإمكان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل تجاهل ما حصل. على الرغم من هجوم القوات والكتائب وخصوم الحزب واستخدام ما حصل مادّة للهجوم، يبقى باسيل المعنيّ الأوّل لأنّ العائلة المنكوبة عائلة تقترع لتيّاره في المنطقة. وعليه سيكون من الصعب على باسيل استكمال "التفاوض مع الحزب على مكتسبات وطنية مقابل انتخاب مرشّحه لرئاسة الجمهورية". فباسيل الذي استعاد عصب تيّاره في خلافه مع الحزب يحاول "توسيع استدارته للحدّ من الأضرار". إلا أنّ إطلاق النار في الكحّالة لن يسهّل عليه المهمّة التي تعترضها في الأساس مطبّات مختلفة لم تنجح في إعادة الثقة بين الحزب والتيّار.

عين إبل والحادث المدبَّر
قبل ساعات من حادثة الكحّالة، كان أهل بلدة عين إبل الجنوبية قد تأكّدوا أنّ الياس الحصروني لم يمُت في حادث سير. بل دُبّر الحادث للتغطية على جريمة منظّمة قام بها عدد من الأشخاص بشكل متقن. حتى الساعة لا معلومات واضحة عن أسباب هذه الجريمة، ولا سيّما أنّ شقيق المغدور استبعد أن يكون لها بعد سياسي، لكنّ شكل تنفيذ هذه الجريمة له دلالاته في منطقة يملك الحزب النفوذ الأقوى. حتى هذه الساعة ما تزال التحقيقات قائمة لمعرفة حيثيّات الجريمة، إلا أنّ مصادر في القوات اللبنانية التي تتروّى في توجيه الاتّهام تتحدّث عن دور فاعل كان المغدور يلعبه في المنطقة قد يكون أزعج القوى النافذة، وقد تكون الجريمة وقعت لأسباب أخرى. بالانتظار لا بدّ من التوقّف قليلاً بهدوء أمام كلّ هذا الغليان والاعتراف أنّ الجرح الذي فتحته أحداث السابع من أيار في بيروت ويمتد إلى كل لبنان لا بدّ أن يعالَج بدل تركه ينزف كلّ هذه السنوات لأنّه حتماً سينفجر يوماً في وجه الحزب وكلّ اللبنانيين.
في عام 2000، عام التحرير، رُفعت أعلام الحزب وصولاً إلى عكّار. خلال ثلاثة وعشرين عاماً تحوّل واقع الحزب إلى النقيض. ليس الكلام هنا عن بيئة مسيحية أو سنّيّة، بل نتحدّث عن بيئة لبنانية. هل يتواضع الحزب ويتّعظ ويعالج أم يترك البلاد رهينة الغليان حتى الانفجار الكبير؟

باسيل والاستراتيجية الدفاعية
اتّخذ الحزب منحى تصعيدي عبّر عنه في بيان  كتلة "الوفاء للمقاومة" الذي أدان "التوتير المبرمج والظهور الميليشياوي المسلّح في الكحالة، وأنّ الشاحنة تعرضت لاعتداء ومحاولة السيطرة عليها ووضعت الكتلة ما حصل في سياق التحريض والتعبئة التي تشكل مادة فتنوية".
وجاء كلام باسيل معبّراً جداً في السياسة قائلاً أنّ "الدلالة كبيرة بأنه لا يكفي أن يكون هناك وحدة شيعية،على أهميتها حتى المقاومة تكون بخير والبلد بخير – الوحدة الوطنية تبقى أكبر وأكثر مناعة". مشيراً إلى "الدلالة الكبيرة على أهمية الاستراتيجية الدفاعية الوطنية التي تنظّم موضوع السلاح".

هل يريد التيار في موقفه هذا أن يقول أنّ الحزب يحتاج غطاءه  في المرحلة المقبلة لوقف مسلسل صدّه في عدد من المناطق؟ الأيام المقبلة ستجيب ما إذا كان سيدخل التيار حادثة الكحّالة في البازار الرئاسي، أم انه سيعالج فعلاً اسبابها العميقة التي ما عاد خافياً لأحد في لبنان ان عدم معالجتها ستنفجر بالبلد بما فيه يوما ما.