انفلات سعر الدولار: لا عودة إلى الوراء

ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة بأكثر من 15 ألف ليرة خلال ساعات قليلة، صباح اليوم 21 آذار، وهو مستمر بالارتفاع بشكل جنوني، حتى تاريخ نشر هذا التقرير. فما العامل الجديد الذي دفع بسعر الصرف إلى الانفلات بهذا الشكل، وأطاح بما تبقّى من قدرة لدى الليرة اللبنانية؟
الجواب، هو ان لا جديد على مستوى المؤشرات الاقتصادية والمالية السلبية والعوامل السياسية الضاغطة على العملة. أما العامل الأساس لجنون الدولار مؤخراً، فهو سيطرة المضاربين على السوق، في ظل غياب كلّي لمؤسسات الدولة والمصارف والمصرف المركزي. باختصار، البلد معطّل بشكل تام، والأرضية مهيّاة تماماً لأي تلاعب مهما كانت تداعياته.

هي ببساطة مرحلة جديدة من الانهيار، الذي بدأت تظهر معالمه منذ سنوات، ويتفاقم بشكل مستمر. قد تكون المرحلة الجديدة أكثر إيلاماً من سابقاتها، لكنها ليست منفصلة عنها، لا بل متمّمة لسياسات الهروب إلى الأمام. واللافت اليوم هو أن لا تصوّر لدى السلطة السياسية لآلية التعامل مع المرحلة الجديدة من الانهيار الاقتصادي والنقدي والمالي، وشلل القطاع العام وانفلات الأسواق وغير ذلك.

حتى إضراب القطاع المصرفي المتقطّع والمستمر منذ أسابيع، لم يعد يستحوذ على الاهتمام الكافي للتعامل معه، وكأن هناك من ينتفع من الإغلاق. هذا الواقع يدفعنا للاعتقاد باحتمال استمرار المصارف بالإغلاق، واقتصار عملها على أسبوع واحد شهرياً لتسيير الرواتب والمعاملات الضرورية. وحسب مصدر مصرفي، فالاستمرار بالإضراب بات واقعاً في ظل غياب الحلول.

الارتفاع صاروخي
مذ كسر سعر صرف الدولار سقف الـ100 ألف ليرة، تراجع اهتمام المواطنين بسعر الصرف وبتغيراته المستمرة. فالحاجز النفسي الذي شكّله رقم المئة ألف ليرة للدولار، والخوف من بلوغه على مدار سنوات، انهار تماماً اليوم، مع ارتفاع سعر الدولار بشكل صاروخي. وإن دل تجاهل المواطنين لتطور سعر الصرف السريع فوق سقف المئة ألف ليرة، فهو يدل على نوع من الاستسلام والتسليم لسقوط الليرة بلا عودة.

فالناس بمعظمها لم تعد آبهة بتغيرات سعر الصرف على مدار الساعة لأكثر من سبب، منها عدم إمكانية استفادتهم من دولارات صيرفة، وتالياً انعدام قيمة مداخيلهم بالليرة. إذ باتت الاسواق مدولرة بشكل شبه كامل، ما يعني عجز حاملي الليرة عن تأمين أدنى مقومات العيش.

اليوم فقدت الليرة اللبنانية كامل قيمتها تقريباً. فالدولار كسر سقف الـ140 ألف ليرة قبل أن يتراجع قليلاً إلى محيط 135 ألف ليرة. مسجلاً بذلك ارتفاعاً خلال فترة قبل ظهر اليوم بأكثر من 10 آلاف ليرة بالمقارنة مع ما سجله يوم أمس.

أما بالمقارنة مع بداية العام، فقد ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة بنحو 3 أضعاف، أي قرابة 300 في المئة. وهو معدل متسارع جداً لانهيار العملة. من هنا لا بد من السؤال ما الذي تغيّر منذ 3 أشهر حتى اليوم؟

لا صيرفة.. لا دولارات
مع استمرار المصارف بالإغلاق، تصبح إمكانية الاستفادة من دولارات صيرفة وإمكان ضخ الدولارات فيما لو توفرت لدى مصرف لبنان، شبه مستحيلة. فالموظفون يحصلون على الفُتات من دولارات المصارف، في حين يعجز مصرف لبنان عن التدخل بالسوق بائعاً للدولار، على غرار ما كان يفعل من قبل.

اجتماع العديد من العوامل الدافعة إلى انهيار العملة الوطنية لا شك أنه كفيل ببلوغ سعر الصرف ما هو عليه اليوم. لكن لا يمكن تجاهل عملية ربط تسارعه الصاروخي بالمضاربات وتعمّد ممارسة الضغوط السياسية. لا سيما أن العوامل التقنية لانهيار العملة لم تشهد تغييرات جوهرية.

فلا حجم الاستهلاك ارتفع، ولا القدرة الشرائية لدى المواطن، ولا فاتورة الاستيراد طرأ عليها تغييرات مهمة في الشهر الأخير. بمعنى آخر، لا دوافع جديدة لارتفاع سعر الدولار بنحو 15 ألف ليرة خلال ساعات قليلة. من هنا يمكن قراءة الانفلات السريع لسعر الصرف بالسياسة أكثر منه بالاقتصاد، اليوم تحديداً، خصوصاً أن السوق الموازية يتحكم بها المضاربون والمتلاعبون وتجار الأزمات، في ظل الأرضية الخصبة للتلاعب، وهي الفراغ التام بالمؤسسات الدستورية، وشلل عموم مؤسسات الدولة، يرافقها تعطيل القطاع المصرفي.

انهيار الرواتب
بعيداً عن أسباب تسارع انهيار العملة والارتفاع الصاروخي للدولار، ثمة رواتب آلاف الموظفين انهارت كلّياً، فالموظف الحكومي الذي كان يتقاضى راتباً 2000 دولار (3 ملايين ليرة) على سبيل المثال قبل الأزمة، بات يتقاضى اليوم نحو 20 دولاراً. فالرواتب والمداخيل المقومة بالليرة تتعرّض لانهيار غير مسبوق.

ويُضاعف فلتان الأسواق وفوضى التسعير بالدولار، الضغوط التي تتعرّض لها الرواتب، حيث لم يعد أي راتب بالليرة اللبنانية يكفي لتأمين معيشة عائلة صغيرة على مدار أسبوع واحد. وبالنظر إلى تسارع التدهور على كافة الصعد، باتت العودة إلى الوراء بمسار سعر الصرف مُستبعدة جداً، لا بل مرشّحة إلى تفاقم.