بالصور- حريق ساروجة الجديد... النيران تلتهم تراث دمشق المعاصر

يُنسب اسم حي ساروجة، إلى أحد قادة المماليك الدمشقيين، وهو الأمير صارم الدين ساروجة المتوفى سنة 743 هـ-1342م، وقد تنافس الأمراء المملوكيون في بناء المنشآت في هذا الحي، من مدارس وجوامع وحمّامات، فتركوا إرثاً قل نظيره في المدن والحواضر الإسلامية. وقد لُقّب المكان، بسبب جمال معالِمه، باسطنبول الصغرى، وقد سبق أن صنّفته اليونيسكو في لائحة المواقع التراثية المحميّة.

لكن هذا الحي تعرض خلال العقود السابقة لكوارث عديدة، بدأت بالمخطط التنظيمي المثير للجدل، والمنسوب للفرنسي إيكوشار والصادر العام 1968، إذ الْتهَم تنفيذه جزءاً كبيراً من قصور الحي الفريدة، ويستمر تدميره الآن مع سلسلة غير منتهية من الحرائق.

فإذا قرر أحد ما أن يبحث عن حكاية فتك النيران ببيوت ودكاكين الحي، فإنه سيُذهل من عدد المرات التي التهمت فيها شرارة طائشة أو متعمّدة، غرفة قديمة هنا أو إيواناً تاريخياً هناك!

جرى هذا كله أمام عيون القائمين على محافظة دمشق التي لا يبعد مقرها عن الحي سوى مئة متر، ووزراء الثقافة الذين تتابعوا على كرسي الوزارة، من دون أن يفعلوا ما هو مطلوب للحفاظ على إحدى أجمل المناطق الدمشقية خارج سور المدينة التاريخية. ويعتقد كثير من الناشطين في الفضاء الثقافي، أن ما جرى في هذه المنطقة من إبادة للإرث الحضاري الدمشقي، كان ومازال يتم بالتواطؤ مع مافيا العقارات السورية التي تتشكل من تجار بناء يتحالفون مع شخصيات نافذة في نظام الأسد، وتطمع في الاستيلاء على مواقع في حي ساروجة، الأمر الذي لطالما عطّل وأعاق المحاولات الصادقة للخروج بحلول تضمن بقاء المكان والاحتفاظ بمعالمه المهمة.

ويضيف ناشطو الثورة السورية، إلى هذه المافيا، شريكاً جديداً هو النفوذ الإيراني المستجد في العاصمة بعد العام 2011، والذي يحاول بدوره الاستحواذ على أكبر قدر من العقارات في المنطقة الحيوية التي تضم مقام السيدة رقية، المزار الشيعي المعروف، وتضم أيضاً المستشارية الثقافية الإيرانية الواقعة على كتف ساحة المرجة.

وفي سياق هذا الوضع العالق بين الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية منذ وقت طويل، يأتي الحريق الكبير الذي تعرضت له المنطقة فجر أمس الأحد، وتناقلت أخباره المواقع المحلية وصفحات فايسبوك بداية، تحت عنوان "حريق جديد في ساروجة"، ليتبين لاحقاً أن الكارثة الحالية لا تقع في حي ساروجة وفق التحديد الجغرافي المعروف والمتداول، بل إنها تضرب مكاناً آخر شديد الأهمية يعتبر حالياً امتداداً للحي بعدما فصل بينهما شارع ونفق "الثورة"، ويقع خلف بناء المصالح العقارية، أي في الجهة المقابلة لسوق الخجا الجديد. وعُرف أن الضحية هذه المرة ليست سوى بيت عبد الرحمن اليوسف(*) الأثري، الذي طاولته النيران من بيت مجاور وتمددت حتى وصلت إلى جناح النساء في بين خالد العظم(**) أي إلى متحف دمشق التاريخي، الذي يضم في جنباته مركز الوثائق التاريخية، ومقر مديرية المباني التاريخية التابعة لمديرية الآثار والمتاحف!

لم يقم أي موقع رسمي تابع للنظام بنشر الحقيقة عن الأمكنة التي أصابتها الكارثة الجديدة، بل إن غالبية ماقع النظام قامت بالتعمية على التفاصيل، مُحيلةً التحديد الجغرافي إلى "اعتيادية" نشوب الحرائق في منطقة ساروجة، بينما حفلت صفحات التواصل الاجتماعي بالصور والمعلومات التي تقارب ما يجري، وتتحسر على دمشق التاريخية التي تنزف معالمها من دون أن يقوم النظام بالقيام بالمطلوب من أجل المحافظة عليها. وكأن بعض إدارات النظام تنحو إلى ترك المكان يتعرض للاندثار بشكل تراكمي، لاسيما أن ثمة مشروعاً سابقاً يُطرح منذ بداية الألفية يحمل اسم "شارع الملك فيصل"، أراد القائمون عليه (محافظة دمشق) شق طريق واسع يخترق العاصمة بحجة تخفيف أزمتها المرورية الدائمة، ويمر في منطقة العمارة ويصل إلى منطقة الزبلطاني في شرق المدينة، ما يستوجب أن تدمّر بلدوزرات المحافظة، مساحة هائلة من الغلاف التاريخي للمدينة القديمة، شمالاً، وسط ترويج بأن هذه العملية ستفضي إلى الكشف عن ثلاثة أبواب تاريخية هي: باب الفرج، باب الفراديس، وباب السلام.

لكن هذا المشروع المريب(***) والذي قوبل باحتجاج علمي وآثاري وثقافي، ألغي رسمياً العام 2011 بعدما قام المركز العالمي للتراث، وبناءً علـى الملف المقدّم من الحكومة السورية، بتسجيل "منطقة حماية المدينة القديمة/35 COM 8B.51" كملحق لملف التسجيل الأساسي العائد للعام 1979.

الإستجابة الرسمية للواقعة الحالية أظهرت اهتماماً غير مسبوق، حيث كان من اللافت أن تنشر وكالة "سانا" الرسمية للأنباء، خبراً عن حضور رئيس الوزراء حسين عرنوس، الساعة الخامسة فجراً، إلى المكان الذي تحاول قوة كبيرة من الدفاع المدني التابع للنظام السيطرة على النيران المندلعة فيه. بينما نشرت صفحة وزارة الثقافة في فايسبوك خبراً عن زيارة وزيرة الثقافة لبانة مشوح للمكان حيث يقع مركز الثوائق التاريخية، وإصدارها توجيهاً يقضي بنقل الوثائق الإدارية والأجهزة إلى أماكن آمنة خوفا من امتداد الحريق، حيث "شارك في العمل طلاب متطوعون من جمعية أصدقاء المتاحف لتقديم الدعم والمساعدة للموظفين في عملية نقل الوثائق الإدارية والأجهزة المهمة"، كما أظهرت الصور المرافقة للمنشور فتيات يقمن بحشر الملفات القديمة السميكة في أكياس قماشية كبيرة كشُروع في عملية إخلاء طارئة!

وبالعودة إلى التدقيق في تاريخ تعاطي مؤسسات النظام مع المكان، فإن ما تنطق به صفحات المهتمين بتاريخ وآثار دمشق، يفصح عن الكثير مما يصمت عنه الإعلام الرسمي وكذلك صفحاته الاجتماعية. وعلى وجه الدقة، فإن تاريخ إهمال بيت عبد الرحمن باشا اليوسف، الذي أطاحه هذا الحريق، كان مكشوفاً منذ سنوات، وقد سبق للباحثة في التراث وتوثيقه رانيا قطف، أن نشرت تدوينات عديدة عن هذا المكان منذ العام 2018 في مجموعة مرموقة تشرف عليها وتحمل اسم Humans of Damascus تتحدث فيها عن الأخطار التي تهدده بسبب الإهمال، خصوصاً أن قيمته وجمالياته لا تخفى على أي شخص يزوره أو يشاهد صوره التي وثقها سوريون من أصحاب البصمة في هذا المجال، كالمؤرخ والأثاري والفنان خالد معاذ. وقد كان مثيراً أن وزيرة الثقافة لبانة مشوح ذاتها، كانت قد أعلنت في تعليقها على إحدى التدوينات قبل ستة شهور، مُعلنة البدء بدراسة ترميم المكان: "زلغط.....المشروع قيد الدرس تمهيداً لبدء العمل وهو من أولويات المديرية العامة للآثار والمتاحف في وزارة الثقافة"!

لكن شيئاً لم يحدث سوى الخراب الذي حل به، الأمر الذي عبّرت عنه قطف بتدوينة رثائية تقول فيها: "في كل مرة كنت أزور فيها بيت اليوسف، كنت أتحسّر على كل حيط وكل حجر وكل رسمة موجوده على جدرانه! آخر زيارة لي كانت منذ 7 شهور... انظروا يا سادة، يا كرام، أنظروا ماذا خسرت دمشق؟ أنظروا وتمعّنوا جيداً في هذه التفاصيل! هذه الصور من ليوان بيت اليوسف. وهذه الألوان من عمر هذا البيت. وهذا الزجاج المعشّق النادر جداً من هوية مدينتنا. يا خسارة".

"خلص الحكي يا شامي"!
يحرص الدمشقيون الذين يراقبون زوال مدينتهم الجميلة، على اعتماد لغة حيادية في حديثهم عن الجرائم المرتكبة في حق شخصيتهم المكانية، ولهذا تفاسيره المعروفة، لا سيما الخوف وعدم اليقين، طالما أن هذه الأحداث تبقى بلا تحقيقات جدّية، لكنهم يعرفون أن الإهمال التاريخي لم يعد مجرد تصرف طائش، بل جريمة حقيقية، تضاف إلى تاريخ سوريا القاتم.

هوامش

(*) عبد الرحمن باشا اليوسف (1871-1920)، أمير مَحمل الحج الشامي وعضو مجلس الأعيان في الدولة العثمانية ونائب دمشق في مجلس المبعوثين. عُين رئيساً لمجلس الشورى في نهاية عهد الملك فيصل الأول، وخلال الأسابيع الأولى من الانتداب الفرنسي في سوريا. قُتل مع رئيس الحكومة السورية علاء الدين الدروبي، في قرية خربة غزالة في سهل حوران، يوم 21 آب 1920.

(**) خالد العظم (1903- 1965) الرئيس الحادي عشر بصفة مؤقتة للدولة السورية بين 4 أبريل و16 سبتمبر 1941، وأحد أبرز الزعماء السياسيين خلال فترة الجمهورية الأولى من تاريخ سوريا. ترأس الحكومة في سوريا ست مرات، وتولى كرسيًا وزاريًا أكثر من عشرين مرة. بعد انقلاب حزب البعث على ناظم القدسي في سوريا، انتقل إلى لبنان حيث عاش حتى وفاته.

(***) سبق لأهالي المنطقة أن وجهوا رسالة لبشار الأسد طالبوه فيها بالتدخل لإيقاف المشروع، قالوا فيها "إن مشروع شارع الملك فيصل المزمع تنفيذه من قبل محافظة دمشق يفتقر لأبسط قوانين حماية التراث وهو ضرورة إشراك المجتمع المحلي في اقتراح الحلول والحفاظ على تراث دمشق، بل على الضد فبمخططها التنظيمي الرقم 440 المعلن بتاريخ 25/2/2007، سوف تُبتر أشهر أسواق دمشق على الإطلاق (سوق المناخلية، سوق الحدادين، سوق العمارة..) وكلها تتصل روحياً مع أبواب دمشق (باب الفرج، باب الفراديس، باب السلام) حيث ستتعرى بإزالة تلك الأسواق وتلك العمارة التي يقر مركز التراث العالمي (اليونيسكو) بأنها الشاهد على توسع المدينة خارج الأسوار، وإذا ما تم شق هذا الأتوستراد الذي لن يوفر من الزمن (المروري) أكثر من عشر دقائق، فإنه سيؤثر سلباً في قرار مركز التراث العالمي في شهر حزيران المقبل وسيعتبر أن دمشق ضمن المدن المهددة بالخطر".