بين الدعم العراقي والدعم الإيراني للبنان: دولة أم فئة؟

في خضم التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه لبنان، برزت في السنوات الأخيرة مفارقة لافتة في كيفية تعاطي كل من العراق وإيران مع الوضع اللبناني، وهي مفارقة تعكس اختلافاً عميقاً في الرؤية الاستراتيجية لكلا البلدين تجاه الدولة اللبنانية ومكوناتها. فبينما اختار العراق نهج دعم الدولة ككل، بعيداً من الحسابات الطائفية والاصطفافات السياسية الضيقة، لا تزال إيران متمسكة بسياسة الدعم الأحادي المحصور بـ "حزب الله"، كامتداد مباشر لأجندتها الإقليمية.

العراق، بخلفيته الشيعية السياسية والاجتماعية، كان يمكن أن نتوقع منه تموضعاً طائفيا مماثلًا لإيران في تعاطيها مع الشأن اللبناني. غير أن ما حصل كان على النقيض تماماً. فبغض النظر عن تقاربه العقائدي مع المكوّن الشيعي اللبناني، اختار العراق الرسمي أن يُبلغ بوضوح إلى القيادات الشيعية في لبنان، أن الطائفة لا يمكن أن تكون قوية أو مؤثرة ما لم تكن الدولة قوية، وأن أي رهان على الهيكل الطائفي بمعزل عن كيان الدولة هو رهان خاسر. ترجم العراق هذا التوجه عملياً من خلال تقديم مساعدات إلى الدولة اللبنانية مباشرة، سواء عبر شحنات النفط أو المبادرات الاقتصادية والإنسانية، دون تخصيص أو تمييز، ودون السعي إلى كسب ولاءات سياسية أو أمنية من طرف دون آخر. هذه المقاربة لم تكن مجرد خيار تقني بل تمثل فلسفة سياسية جديدة للعراق ما بعد مرحلة التفكك، تؤمن بأن استقرار الجوار يبدأ من دعم الكيانات الوطنية لا الفصائل، حتى لو كانت هذه الفصائل من نفس الخلفية المذهبية.

في المقابل، ظل النهج الإيراني ثابتاً في حصر دعمه في لبنان ضمن إطار "حزب الله" فقط، بما يخدم أجندة جيوسياسية تتجاوز لبنان نفسه. إيران لا تقدم مساعدات للدولة اللبنانية كمؤسسة، بل تضخ قدراتها اللوجستية والمالية والعسكرية في قنوات ضيقة مرتبطة بـ "الحزب"، معتبرة أن هذا المسار وحده يضمن لها النفوذ الفعلي في القرار اللبناني، حتى ولو أتى ذلك على حساب الدولة ومؤسساتها. ولعل زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت تكشف بوضوح هذا النهج. فعلى الرغم من أن الزيارة أُحيطت بلغة دبلوماسية، فإن هدفها الأساسي كان بعيداً كل البعد عن الملفات السياسية الكبرى أو دعم الدولة في محنتها، بل انحصر في مسعى مباشر لرفع الحظر المفروض على رحلات الطيران الإيراني إلى لبنان.

عراقجي لم يتردد خلال لقائه مختلف القيادات اللبنانية في طرح ملف الطيران، مستهجناً استمرار قرار تعليق الرحلات الجوية من طهران إلى بيروت، ومتسائلاً عن السبب، في حين أن هناك ما يقارب 130 رحلة أسبوعية بين إيران والإمارات العربية المتحدة رغم العقوبات. إلا أن الجواب اللبناني الرسمي جاء حاسماً: "إسرائيل ليست على حدود الإمارات، بينما هي على حدود لبنان، ونحن لسنا في صدد تعريض مطار رفيق الحريري الدولي للخطر". هذا الرد لم يكن فقط تبريراً لقرار سيادي، بل تلويحاً بفارق المقاربة بين من يطلب من لبنان أن يتحمل المخاطر لمجرد تمرير أجندة خارجية، وبين من يعتبر أمن البلد واستقراره جزءاً من احترام الدولة ومؤسساتها.

المقارنة بين النهجين العراقي والإيراني لا يمكن أن تُختزل في سرد تقني للمساعدات أو في تفاصيل الزيارات الرسمية. إنها في جوهرها تعبير عن رؤيتين متباينتين للبنان: رؤية تعتبره وطناً قائماً بذاته يجب أن يُصان، ورؤية تعتبره ساحة مفتوحة للصراع بالوكالة. فالعراق، برغم أزماته الداخلية، قدّم نموذجاً في إخراج الدعم من منطق المذهبية إلى منطق الدولة، بينما لا تزال إيران، رغم نفوذها الكبير، تصرّ على التعامل مع لبنان كوظيفة داخل مشروع إقليمي، لا كدولة لها سيادتها وقرارها.

لذلك، فإن أي بحث في مستقبل العلاقة اللبنانية مع القوى الإقليمية لا يمكن أن يغفل هذه الفروقات الجوهرية في الرؤية والسلوك. فلبنان، الذي يعاني في مؤسساته وإعادة ترميم ثقته بنفسه، هو أحوج ما يكون إلى من يراه كدولة تستحق الحياة، لا كمجرد نقطة ارتكاز في صراعات الآخرين.