بين شِباك مثقوبة وبحر مُلوّث... الثروة السمكيّة كنز على شفير الإنقراض

تتميز السواحل اللبنانية الممتدة على أكثر من 220 كيلومتراً من الناقورة جنوباً إلى العريضة شمالاً، بتنوعها البيولوجي البحري الغني، ما يمنح البلاد ثروة سمكية ثمينة، تشكل مصدر رزق لآلاف الصيادين، وعنصرا مهما في الأمن الغذائي الوطني. غير أن هذه الثروة الطبيعية تواجه اليوم تحديات متفاقمة تهدد استدامتها وجدواها الاقتصادية، في ظل غياب شبه تام للسياسات العامة والدعم المؤسسي.

ويعد البحر اللبناني موطنا لعدد كبير من أنواع الأسماك، مثل السلطان إبراهيم، المرلين، اللقز، السرغوس، الأنشوفة، القرش الأبيض المتوسط (وهو مهدد بالانقراض)، إضافة إلى أنواع موسمية تهاجر نحو السواحل اللبنانية، وتشكل مصدر رزق مهم للصيادين.

لكن بالرغم من الإمكانات الطبيعية الواعدة للسواحل اللبنانية، يواجه قطاع الثروة السمكية سلسلة من التحديات التي تتشابك، لتجعل من هذا المورد الحيوي قطاعا هشا مهددا بالانهيار، وأخطر ما يواجه الثروة السمكية اليوم هو تلوث الشواطئ ومياه البحر، حيث يعاني البحر اللبناني من مستويات مقلقة من التلوث، نتيجة تصريف مباشر للمياه المبتذلة والصناعية في البحر، من دون معالجة، حاملة معها مخلفات المنازل والمستشفيات والمعامل، ما يؤدي إلى تسمّم بعض الأنواع البحرية بالمعادن الثقيلة والبكتيريا، وبالتالي إلى نفوق أعداد كبيرة من الأسماك، لا سيما خلال مواسم الحرارة المرتفعة، إضافة إلى تراجع جاذبية السمك المحلي في السوق، بسبب فقدان الثقة بسلامته.

وأشارت الوكالة الأوروبية للبيئة إلى أن أكثر من 65% من المخزون السمكي في المنطقة، يعتبر خارج الحدود البيولوجية الآمنة، وإن بعض أسماك الصيد المهمة مهددة.

كما نشرت منظمة "غرينبيس" الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تقريراً يكشف عن أن كمية التونة في البحر المتوسط، انخفضت بنسبة تزيد على 80% في السنوات الـ 20 السابقة.

 

تلوّث المياه

مؤسس ورئيس "جمعية الأرض – لبنان" والمنسق والمدرب في مجال التربية البيئية بول أبي راشد ، أكد لـ "الديار" أن أكثر من 82% من النفايات البحرية في لبنان مصدرها الأنشطة البرية، مثل النفايات غير المجمعة في المدن، والتخلص العشوائي منها بالقرب من مصبات الأنهار، إضافة إلى النفايات التي يتركها الزوار على الشواطئ، مشيراً إلى أن "نحو 20% من هذه النفايات مصدرها السفن وممارسات الصيد البحري، ما يستدعي معالجة المشكلة من جذورها، إذ إن البحر امتلأ بالنفايات، وهو ما ينعكس سلبا على الثروة المائية والبحرية، التي تعد ضرورية لحياة الإنسان واستدامة الأمن الغذائي".

يشار إلى أنه في العام 2022 ، وتحديدا في ميناء صيدا جنوبي لبنان، طفت على وجه المياه في ميناء الصيادين التاريخي المحاذي لقلعة صيدا التاريخية، كمية تقدر بـ200 كلغ من الأسماك الصغيرة النافقة، ورجح نقيب الصيادين نزيه سنبل أن "سبب نفوق الأسماك نتيجة لرمي المعامل الصغيرة والمواطنين بعض المواد الكيماوية والمنظفات في مياه الصرف الصحي، التي تصب في البحر دون معالجة فعالة، مما يؤدي إلى نفوق الأسماك".

وفي دراسة حديثة تبين وجود تراكيز عالية من الميكروبلاستيك في رواسب السواحل اللبنانية، تتراوح بين 0 و4500 جزيء لكل كغ من الرواسب الجافة، مما يشير إلى تلوث متزايد قد يؤثر في الحياة البحرية وصحة الإنسان.

 وكشفت تقارير حديثة أن بعض الأسماك المصطادة قرب مصبات المجارير، تحتوي على نسب مرتفعة من الزئبق والكادميوم والرصاص، ما يجعلها غير صالحة للاستهلاك البشري.

وفي موازاة التلوث، يفاقم الصيد الجائر من تدهور المخزون السمكي، إذ يعاني البحر اللبناني من استنزاف متسارع نتيجة ممارسات غير قانونية، كاستخدام شباك ضيقة الحجم تصطاد الأسماك قبل نضوجها، والصيد خلال مواسم التكاثر، ما يمنع تجدد الأنواع، والصيد الليلي غير المنظم، الذي يخل بالتوازن البيولوجي، إضافة إلى غياب الرقابة الفعلية في ظل انحسار دور خفر السواحل وتفكك أجهزة التفتيش.

أين القانون؟

كل هذه التحديات لا تنفصل عن واقع الصيادين أنفسهم، الذين يواجهون بيئة تشغيلية بالغة القسوة، إذ تفتقر غالبية المرافئ إلى أبسط التجهيزات الأساسية، مثل الكهرباء، المياه، غرف توضيب أو تبريد الأسماك، وتغيب عنها الرقابة الصحية والمختبرات النوعية، إضافة إلى الاهمال. فتراكم النفايات والتعديات العمرانية، دون أي صيانة دورية، يجعل بعضها غير صالح للعمل.

ومع تراكم هذه الأزمات، يبرز العامل الجوهري الذي يربطها جميعا الغياب شبه التام للسياسات العامة، فرغم وجود قانون ينظم الصيد البحري في لبنان (المرسوم 2775/1980)، إلا أن تنفيذه شبه غائب وقد عفا عليه الزمن، فالجهة المسؤولة عن القطاع، أي وزارة الزراعة، تفتقر إلى برامج دعم مستدامة للصيادين، وآلية فعالة للرقابة على الصيد والممارسات غير القانونية، وخطط إنقاذية متكاملة بالتنسيق مع البلديات والمجتمع المدني، إضافة إلى شراكات علمية مع الجامعات أو معاهد الأبحاث البحرية لمراقبة المخزون البيولوجي، مما يؤدي إلى فوضى عارمة في استخدام البحر، وغياب قاعدة بيانات رسمية دقيقة، وتآكل متسارع لثروة يفترض أن تشكل أحد أعمدة الأمن الغذائي للبنانيين.

يُشار إلى أن وزارة الزراعة أطلقت العام الماضي الخطة الوطنية للنهوض بقطاع الأسماك والاستزراع السمكي البحري والنهري، وهي استراتيجية تهدف إلى توفير مصدر غذائي مستدام، وزيادة الإنتاج لتلبية الطلب المتزايد على الأسماك. ويقصد بالاستزراع السمكي عملية تربية الأسماك بأنواعها المختلفة في بيئات مائية خاضعة للرقابة، سواء أكانت مياهًا مالحة (بحرية) أو عذبة (نهرية).

وقد شهد لبنان ممارسة الاستزراع المائي في المياه العذبة منذ ثلاثينات القرن الماضي، وكان أكثر من 90% من الإنتاج يتركز على أسماك التراوت قوس قزح (Oncorhynchus mykiss)، التي أُدخلت في العام 1958 وتربّى ضمن نظم شبه مكثفة. ويبلغ عدد مزارع تربية الأسماك اليوم حوالى 150 مزرعة أو عنبر تربية، موزّعة في مختلف المناطق.

الفوضى التشريعية والمؤسساتية

في المقابل، يقدر عدد الصيادين المسجلين رسميا في لبنان بحوالى 6,000 صياد، موزعين على أكثر من 44 تعاونية ونقابة، إلا أن معظمهم يعتمد على معدات صيد بدائية وقوارب صغيرة، ما يجعل إنتاجهم ضعيفا، مقارنة مع كلفة التشغيل المرتفعة، خاصة بعد ارتفاع أسعار المحروقات وقطع الغيار.

ورغم أن القانون الدولي للبحار يسمح للصيادين اللبنانيين بالصيد لمسافة تصل إلى 21 كيلومترا من الشاطئ، إلا أن القوارب الحالية لا تمكنهم من تجاوز حدود 5 إلى 7 كيلومترات فقط، ما يبقي نحو 3,450 كلم² من المياه البحرية غير مستثمرة، وهي تحتوي على ما يقدر بـ85٪ من الثروة السمكية اللبنانية. وللوصول إلى هذه المناطق الغنية، يحتاج الصيادون إلى مراكب أكبر مجهزة للصيد في الأعماق، وهو ما يستدعي أيضا إعادة تأهيل الموانئ لتتلاءم مع هذه الاحتياجات.

في ظل هذا الواقع، تنعكس الفوضى التشريعية والمؤسساتية مباشرة على السوق المحلي، إذ تغزو الأسواق اللبنانية كميات كبيرة من الأسماك المستوردة، غالبا مجمدة، خصوصا من مصر وتركيا ودول آسيوية. وعلى الرغم من تدني جودة هذه الأسماك في كثير من الأحيان، فإنها تباع بأسعار أدنى من الأسماك المحلية، ما يفاقم الأزمة ويضع الصياد اللبناني في موقف حرج بين كلفة مرتفعة ، وقدرة تنافسية شبه معدومة.

وينتشر على الشاطئ اللبناني أكثر من 30 ميناء لصيد السمك، 60٪ منها غير صالح مثل ميناء جل البحر والضبية والناقورة و الهري، ما يؤدي إلى انخفاض مستويات صيد السمك إلى 10 أطنان، وهي كمية لا تكفي الاستهلاك المحلّي، حيث تغطي 20٪ فقط من حاجة السوق اللبنانيّة، ما يدفع إلى استيراد الـ80٪ الباقي من الخارج.

وبحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، استورد لبنان في 2022، ما مجموعه 11067 طن من الأسماك والقشريات والرخويات وغيرها، بقيمة 50.4 مليون دولار أميركي، في حين تم تصدير 1.6 في المئة فقط من حجم الاستيراد، أي 178 طن مقابل 1.3 مليون دولار، وبلغ إنتاج لبنان من الأسماك وفقا لبيانات البنك الدولي نحو 3,728 طنا متريا في عام 2021، وهو رقم متواضع جدا نسبة إلى الإمكانات البحرية المتاحة، ولا يكفي لتغطية الطلب المحلي، ما يدفع البلاد إلى استيراد كميات كبيرة من الأسماك المجمدة.

هجرة الصيادين

وما زاد من تفاقم الأزمة أخيرا، هو تأثير الحرب العبثية من قبل العدو "الإسرائيلي" على لبنان، فالوصول إلى البحر بات صعبا، خاصة مع التحذيرات المستمرة التي كان يطلقها جيش العدو للصيادين والمواطنين لعدم نزولهم للبحر والشاطئ. هذا الحظر البحري أدى إلى تهجير الصيادين من الجنوب نحو بيروت. وفي هذا السياق، أكد نائب رئيس نقابة صيادي الأسماك في صور سامي رزق أن "الحرب قلصت عمل الصيادين تدريجيا حتى أصبح شبه مشلول، مما أرغم الصيادين على النزوح".

في مواجهة كل هذه التحديات، تبرز الحاجة الماسة لخطة وطنية تنقذ ما تبقى من الثروة البحرية، كرافد اقتصادي وغذائي مستدام. فتعزيز إنتاج الأسماك وتحسين نوعيتها، يمكن أن يساهم في تخفيض فاتورة الاستيراد، وتأمين مصدر بروتين بأسعار مقبولة للسكان، وتوفير فرص عمل في المناطق الساحلية المهمّشة، لكن ذلك يتطلب خطة وطنية واضحة بتقديم الدعم للصيادين تقنيا وتمويليا، وتنظيم الصيد عبر مواسم ومواصفات صارمة، وتعزيز المراقبة البحرية، إضافة إلى حماية البيئة البحرية ومكافحة التلوث وتحديث الإطار القانوني.

وفي خطوة إيجابية افتتح عام 2023 سوق الأسماك الجديد، الذي انشأه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالشراكة مع المانيا عبر البنك الألماني للتنمية ‏KfW ، وبالتعاون ‏مع الجمعية التعاونية لصيادي الأسماك في القلمون، بهدف دعم الصيادين في الشمال وتعزيز وضعهم المعيشي في ظل الأزمة ‏الاقتصادية التي عصفت بالبلاد.

وكان لبنان قد أجرى أوّل مسح تجريبي لمراقبة موارده السمكية ومخزونها على طول ساحل البلاد، في العام 2021 ، بمشاركة منظمات وخبراء دوليين، حيث أنّ الهدف كان تقييم مخزون الأسماك المتوافرة خارج نطاق العمل الحالي لأسطول الصيد البحري اللبناني. إلّا أن هذه الخطوة لم تستكمل بسياسات حكوميّة.

الثروة السمكية في لبنان هي من الموارد الطبيعية التي ما زالت تنتظر من يقدر قيمتها ويستثمر فيها بشكل علمي ومستدام. فبين بحرٍ ملوث وقوانين غائبة، يلقي الصياد اللبناني شباكه في معركة يومية محفوفة بالمخاطر، يتهددها الفقر وترهقها الأزمات، فيما تبحر ثروة لبنان السمكية نحو المجهول.