بين 2012 و2022: النبطية الأغلى وعكّار الأرخص... وقدرة الموظفين الشرائية انخفضت 90%

ليس مستغرباً أو منافياً لقواعد التجارة والأعمال أن ترتفع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والخدماتية الى معدلات جنونية خصوصاً بالنسبة لذوي الدخل غير المدولر، في بلد 90% من حاجاته الحياتية، وضرورات المأكل والمشرب فيه، مستوردة من الخارج، وبالعملة الصعبة، وفي ظل انهيار اقتصادي ونقدي قضى على 95% من القدرة الشرائية لعملته الوطنية.

ارتفاع غياب الإنتاج المحلي الوافر، وفقدان الخطط الوطنية الاستراتيجية الشاملة لدى الدولة لتحفيز الاستهلاك من مستورد إلى منتج أو مصنع محلياً، أصاب الاقتصاد بضربة قاضية عند انهيار الليرة، وأصيبت معه قدرة المستهلك اللبناني على الاستمرار بالحد الأدنى من مقوّمات الحياة اليومية بأضرار، لا تعوّضها برامج مساعدة أو دعم دولي، خصوصاً بعد سقوط الطبقة الوسطى الى خط الفقر، وباتا معاً يشكلان 80% من الشعب اللبناني، وهو ما لا قدرة للدولة اللبنانية ومعها المؤسسات الدولية الإغاثية أو المانحة على استيعابه ومعالجته.

تنامي الأسعار صعوداً أتى على خلفية تراكم مسببات محلية وخارجية عدة، تضافرت في صناعة مشهد الغلاء الفاحش وتغيّر السلوك الاستهلاكي عند غالبية اللبنانيين.

في المحلي، حتّم انهيار العملة ارتفاع الأسعار بالليرة، ولم تجدِ نفعاً كبيراً في خفضها خطوة دولرة أسعار السوبرماركت والمحروقات، حيث هزم تنسيق التسعير قاعدة المنافسة، وبات من النادر أن يجد المستهلك فرقاً ملموساً في الأسعار بين نقاط البيع، باستثناء بعض المناطق البعيدة عن العاصمة والمدن الرئيسية، حيث فرض ضمور الحركة وجمود الأسواق تخفيضات لا يُعتد بها، ولا تصح الإشارة إليها بأنها "أسعار منافسة".

وفي الأسباب الخارجية، كان للارتفاع المطّرد في أسعار المحروقات في الأعوام الثلاثة المنصرمة أثر بالغ في رفع كلفة نقل المستوردات والتأمين عليها، وكذلك الزيادات التي طرأت على رسوم المرافئ والمطار، فضلاً عن الحرب الضروس التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا، والنقص العالمي الحاد في جميع أصناف الحبوب والزيوت النباتية بعد توقف الإنتاج والتصدير الأوكراني شبه الكلي.

إلى الأسباب الآنفة الذكر، تغيب عدالة التسعير والبيع بين المناطق اللبنانية المختلفة، وبين تاجر وآخر على جيرة، للسبب التاريخي المعروف في لبنان، وهو الغياب المعتاد للدولة عن مراقبة الأسعار وجودة المعروضات ونوعيتها، وانكفاؤها عن تحمّل مسؤوليتها الدستورية في حماية ورعاية مواطنيها، خصوصاً في مرحلة يتدحرج فيها الوضعان الاجتماعي والاقتصادي إلى قعر لم يسبق للبنانيين أن شهدوا مثله منذ الحرب العالمية الأولى.

الأسباب أعلاها وأسباب أخرى، خلصت إليها الدراسة التي أعدّتها كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع الدكتور فؤاد زبليط التي اعتمدت على البيانات المنشورة على موقع www.humdata.org بشأن أسعار السلع في لبنان. الدراسة بيّنت أن المستهلك يواجه تغييرات في الأسعار، خلال الفترة الزمنية عينها بين المناطق المتفاوتة في لبنان) المحافظات)، مرجحة أن أسباب المشكلة تعود الى النقص في مراقبي الأسعار، والنطاق المحدود في مجال ضبط الأسعار وتحديد الحدود العليا لها، والنقص في توافر خبراء متخصّصين في مجال الأمن الغذائي، والافتقار إلى برامج زراعية متكاملة لتعزيز السوق بالسلع في الأزمات، وكذلك الى توافر وسائل نقل وطنية رخيصة للمنتجات المستهلكة، إذ يمكن أن تتجاوز تكلفة النقل 30% من التكلفة النهائية للسلعة.

الدراسة لحظت أن أسعار نحو 80 سلعة في 3 فترات زمنية: من عام 2012 حتى تشرين الأول 2019، أي الفترة قبل الأزمة، ومن تشرين الأول 2019 حتى نهاية عام 2021 (فترة الأزمة مع السلع المدعومة)، وعام 2022 (بعد إلغاء الدعم).

ووفق الدراسة فقد فرضت الأزمة المصرفية والمالية في لبنان عاملين رئيسيين على قضيّة الأمن الغذائي، أولهما الارتفاع القويّ لسعر الصرف مقابل سعر رسمي منخفض للدولار (1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد)، ومعدل التضخم المتسارع أثّر بقوة على أسعار السلع وعلى القدرة الشرائية بالليرة اللبنانية. وتبعاً لذلك أفضت الدراسة الى أن ثمة تفاوتاً في الأسعار بين المحافظات: فمحافظة النبطية الأغلى وعكار الأرخص، وبينهما تأتي محافظتا بيروت والشمال. كما أظهرت الدراسة أن ثمة تفاوتاً بالأسعار بين المدن والأقضية، فكانت مدن جزين ومرجعيون وراشيا هي الأغلى، فيما حلبا وبعلبك والهرمل هي الأرخص. أما غالبية الأسعار بعد الأزمة، إذا ما احتُسبت على الدولار الأميركي، فكانت نسبياً أرخص باستثناء زيت دوار الشمس الذي تأثر بالأزمة الأوكرانية.

في الوقت عينه، وخلال العامين الأولين من الأزمة، لجأت الحكومة الى دعم الوقود ومشتقاته والقمح والخبز وبعض السلع الأخرى، أما خلال عام 2021 فرُفع الدعم، وكانت الأسعار "تتذبذب" لفترة قصيرة من دون أي منطق، ثم استقرّت لاحقاً بسبب تسارع عملية دولرة سوق التجزئة.

وذكرت الدراسة أن رواتب القطاع العام لا تزال تسدّد بالليرة اللبنانية دون مجاراة نسبة التضخم بسعر الصرف (60 ضعفاً)، وتالياً يعاني موظفو القطاع العام والمؤسسات والإدارات الرسمية كثيراً من تأثير تغيير الأسعار في لبنان، إذ فقدوا قدرتهم الشرائية بنسبة تراوح بين 85% و90% مقارنة مع ما كانت عليه قبل الأزمة.

غالبية أسعار السلع في هذه الدراسة هي لنهاية 2022، وكان لاستقرار سعر الصرف انعكاس على استقرار سعر السلع بالدولار الأميركي، ولكن معدّي الدراسة اعتبروا أنه لا يوجد تضخم بالأسعار نسبة الى ما قبل الأزمة بالرغم من أن الأسعار مسعرة بالدولار.

عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي عدنان رمال وعضو جمعية تجار بيروت، علق على نتائج الدراسة معتبراً أنه لا يمكن خفض أسعار السلع من خلال المراقبين وهذا الإجراء لا يُعتمد عليه ولا يمكن مراقبة الأسعار في القطاعات والمناطق كافة مهما كان عدد المراقبين.

في الأساس هناك طريق واحد لخفض الأسعار في الاقتصاد الحر والاقتصاد المدولر وذلك من خلال المنافسة في ما بين الشركات، وفق ما يقول رمال، فالمنافسة برأيه تكون من خلال النوعية المتوازية أو من خلال التشابه في الخدمة.

أما بالنسبة للمراقبة على نوعية الغذاء، فهو من مسؤولية مؤسسات الدولة المختصة ولا يمكن التراخي فيه، ويمكن إيجاد بدائل من الفراغ الحاصل في بعض الأمكنة نتيجة غياب هذه المؤسسات من خلال قيام البلديات ضمن نطاقها البلدي بدور المراقبة الصحية والمتابعة اليومية له. وفي موضوع غياب الزراعات الكافية، يشاطر رمال ما أوردته الدراسة "هذا الأمر صحيح، وهو ناتج عن أزمة مزمنة نتيجة غياب الخطط الحكومية عن دعم وتحفيز هذا القطاع الإنتاجي والحيوي الذي يحتاج الى رؤية واضحة من الحكومة لكيفية تفعيل ودعم قطاعاتها الإنتاجية".

ويشير رمال الى أن "كلفة النقل من المركز الى المناطق مرتفعة جداً، وذلك بسبب غياب النقل الرخيص بواسطة طرق مواصلات نهرية أو قطارات كما هو معمول في كافة دول العالم، بما يؤثر على أساس احتساب السلع بعد إضافة أكلاف النقل العالية. كما أن التفاوت بين منطقة وأخرى في الأسعار مردّه الى أسباب عدة منها البعد الجغرافي ومنها غياب المنافسة خصوصاً في المناطق البعيدة، ومنها قلة البيع ومنها القدرة الشرائية للمستهلكين ومنها النوعية العالية للسلع ومنها أيضاً بعض الطمع".

ولفت الى أن "تغيّر الأسعار ما بين فترة الثبات في سعر الصرف لغاية عام 2019 وما بين فترة الدعم، تُعدّ قياسية للسلع المدعومة ومقبولة للسلع غير المدعومة لنفس الفترة بسبب دخول السلع المدعومة ضمن كلفة منخفضة عن السابق خصوصاً المحروقات والرسوم الجمركية وغيرها من الرسوم، وهذه الفترة كانت فترة ذهبية للمواطنين والمستهلكين بالحصول على السلع بأرخص الأثمان".

بالنسبة لفترة ما بعد الدعم لغاية تاريخ رفع الدولار الجمركي من 1500 الى 15000 اولاً، يرى رمال أن الاسعار ارتفعت، ولكن بنسبة مقبولة. بيد أن الزيادة الكبرى على كافة السلع جاءت مع زيادة الدولار الجمركي الى 85500، وأتت مترافقةً مع زيادة أسعار المحروقات عالمياً ومع زيادة الرواتب في القطاع الخاص وبدلات الإيجار للمؤسسات، والبدء باحتساب القيمة على أسعار الدولار الحقيقي بدل احتسابها في السنوات التي سبقت على قيمة الدولار الرسمي".

انفجار الأزمة في 2019 وتمددها يمكن وضعه في الإطار الطبيعي لنتائج سياسات الدولة اللبنانية الاقتصادية والمالية التي استمرت منذ 1990 حتى الانهيار، وترسّخ ثقافة الاتكال على الدولار الاغترابي المحوّل من الخارج، لتمويل المستوردات "من جميعو" من الخارج أيضاً، لكن ما لم يكن طبيعياً أو منطقياً أن تقف الدولة بكامل مؤسساتها ووزاراتها مكتوفة اليدين، ومكبّلة بأزماتها السياسية و"الانتخابية" عاجزة عن القيام بأيّ خطوة مرتدة بوجه الأزمة الراهنة تعيد من خلالها ضبط الاستيراد المتفلت، والاستغلال البشع لفوضى التسعير، وإعادة بناء قواعد ناظمة لحركة البيع والشراء تحت سقف التنافسية المفتوحة، وعدالة في احتساب سعر الكلفة والمردود الربحي للتاجر لخلق عدالة اجتماعية تعين اللبنانيين على تجاوز الأزمة بما بقي لديهم من قوة وفتات قدرة على الصمود بوجه الانهيار.