تاريخ الأوبرا في بعلبك: ذاكرة المعابد

حين تذكر بعلبك، يتبادر إلى الذهن مشهد الحجارة التي تواجه الزمن بوقار لا يخبو، وأعمدة ترتفع نحو السماء، حاملةً بين شقوقها قصص حضارات وممالك مرّت من هنا. لكن بعلبك ليست فقط متحفاً مفتوحاً للتاريخ، بل مسرح حيّ للفنون، وساحة تلاحمت فيها الموسيقى بالكلمة مع الرنين، والنور بالحجر.


البداية... حلم!
ذات مساء من آب/أغسطس 1922، حلّ الجنرال غورو وشقيقته والكولونيل كاترو وبيار ليوتي زوّاراً على القلعة، وجلسوا يترنّمون بين أعمدة معبد جوبيتير بأبيات لراسين وكورناي. لاحقاً، كتب الصحافي الفرنسي جورج فايسييه - وكان رئيس تحرير جريدة "سوريا" - مسرحية بعنوان "حب عشتروت وأدونيس المأسوي"،. وفي الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 1922، تحوّلت الأسطورة إلى عرض مسرحيّ أمام 400 مشاهد. واللواء الـ39 لسلاح الطيران في رياق أمّن إنارة القلعة بينما الكشافات المضادة للطيران كانت تلقي أضواءها.

فكرة وسط الآثار
بدأت فكرة تحويل بعلبك إلى مسرح مفتوح للفنون في خمسينات القرن العشرين، في زمن الجمهورية الثانية، حيث تضافرت الجهود لخلق لبنان ثقافي متوهّج. فكانت بعلبك، بما تحمله من رمزية تاريخية، المكان الأمثل لولادة هذا الحلم.

أُطلق "مهرجان بعلبك الدولي" برؤية طموحة: أن تتحوّل القلعة إلى مسرح يليق بعظمة المكان وبثقافة شعب يتوق إلى التجدّد. كانت الفكرة ثورية: أن تُقدَّم الأوبرا والباليه والعروض المسرحية والموسيقية في قلب المعابد الرومانية، وتحت النجوم، في تزاوج بين الأزل والفن.

جسر الثقافات
بعلبك لم تكن مسرحاً للبنانيين وحدهم. فقد استقبلت كبار الفرق العالمية: من أبيرا "توسكا" لبوتشيني إلى الأوركسترا الفلهرمونية لراديو شتوتغارت، ومن ألحان روستوبوفيتش إلى قيثارة جون بيز. حتى العروض المسرحية العربية، وعمالق الطرب أمثال أم كلثوم، وجدوا في بعلبك حضناً يقدّر النص، ويحترم الأداء، ويمنح الممثل قدسية المعبد.

تاريخ الأوبرا في بعلبك
منذ انطلاقة مهرجانات بعلبك الدولية عام 1956، شكّلت عروض الأوبرا ركناً أساسياً من البرنامج الفني، وساهمت في ترسيخ مكانة لبنان كمركز ثقافي منفتح على العالم.

في الخمسينيات والستينيات، استقبلت قلعة بعلبك عروضًا لأهم الفرق الأوبرالية العالمية، أبرزها:

أوبرا باريس الوطنية

أوبرا فيينا

أوبرا لاسكالا – ميلانو
وقد شارك مغنّون عالميّون بأصواتهم في الليالي البعلبكية، من بينهم مونسيرات كاباليه وماريا كالاس.

كما قدّمت الفرق اللبنانية عروضاً أوبرالية محلية، أحياناً بلمسة عربية أو بموسيقى مقتبسة من التراث، ما أضفى نكهة مميزة على التجربة.

شهدت الأوبرا في بعلبك، كما العروض المسرحية والحفلات، انقطاعاً خلال الحرب اللبنانية، لكنها عادت بقوّة في التسعينيات، مع عروض متقطعة ولكن نوعية، مزجت بين الأداء الكلاسيكي والابتكار البصري.

في السنوات الأخيرة، عادت الأوبرا إلى بعلبك ضمن إطار معاصر، عبر إنتاجات مسرحية موسيقية تجمع بين الأوبرا والرقص، وعروض لبنانية تعيد تأويل الأوبرا بلغة مرئية شرقية، غالباً بالتعاون مع مصمّمين لبنانيين مثل ربيع كيروز، لإضفاء بعد بصري وجمالي على التجربة.