تمويل "الاسواق المالية" ينفد... وخلافات الاعضاء يعرقلها

يوماً بعد يوم تتسع رقعة الشغور في المؤسسات والمواقع الرسمية في الدولة، وتتسع معها مساحة التعطيل والمماطلة في تأمين مصالح الناس والمؤسسات، وتقديم الخدمات الأساسية المطلوبة منها.

التعطيل ينسحب حاليا على أعمال هيئة الاسواق المالية على خلفية الخلافات المتجذرة بين اعضاء مجلس ادارتها، وأضيف اليها عامل طائفي بعدما غاب الأعضاء المسيحيون من مجلس إدارة الهيئة، كلّ لأسبابه، وبات يعمل بنصف أعضائه المسلمين، فـ"خلصت الدنيا عند البعض". هذا الأمر استدعى تجييش حملة ضد رئيس الهيئة حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري، ليس على خلفية سعيه الى إغلاقها كما اشيع، بل لاتهامه بمحاولة الاستئثار بصلاحياتها وتغييب الأصوات المسيحية والسيطرة على الهيئة وحصر صلاحياتها به، ووو...

فمجلس هيئة الأسواق المالية يتألف من 7 أعضاء هم: حاكم المصرف المركزي رئيساً، والمديران العامان لوزارتي الاقتصاد والمال، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف. اما البقية فهم 3 أعضاء متفرغون يعيّنون بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المال لمدة 5 سنوات. وهؤلاء يفترض أن يكونوا خبراء: خبير في الشؤون المصرفية تقترحه جمعية المصارف، خبير في شؤون الأسواق المالية تقترحه بورصة بيروت، وخبير في الشؤون المالية يقترحه وزير المال.

ولكن بعيدا من التجاذبات والخلافات السياسية والطائفية التي تظلل وضع الهيئة حاليا، فقد جمّدت الازمة النقدية الخانقة والخلل المالي الذي أصاب البورصة والمؤسسات والاسواق المالية عملها، ما جعلها غير ذي فائدة قصوى حاليا وشتّت قدراتها وألغى دورها، وفاقم الازمة عدم ايجاد التمويل اللازم لها.

وبعدما كثر الحديث عن نية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة اغلاق هيئة الأسواق المالية، انتقلت الشائعات حول الموضوع الى الحاكم بالإنابة وسيم منصوري بصفته الرئيس الأعلى لها، إذ ثمة مَن يؤكد أن منصوري يعدّ العدة لإغلاق الهيئة على خلفية عدم توافر التمويل الكافي لها، خصوصا ان حجم العاملين فيها كبير بما لا يتناسب مع عمل الهيئة الذي تراجع كثيرا بسبب الظروف الاقتصادية والمالية التي تعيشها البلاد، توازياً مع تراجع نشاط القطاع المصرفي الذي كان يعمل في الأسواق المالية، وتراجع نشاط الشركات الخاصة المدرجة.

البعض يشدد على ضرورة المحافظة على استمرارية الهيئة، ولو بما تيسر من تمويل في انتظار عودة الامور الى مسارها الطبيعي، خصوصا أن ثمة اتفاقات أبرِمت مع عدد من الدول، مع الاخذ في الاعتبار الجهود التي بُذلت للانضمام الى المنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية "الآيوسكو". لكن التمويل لا يزال عائقاً حتى اليوم، وثمة خطر جدي بتعطيلها بفعل الأمر الواقع نتيجة نفاد التمويل نهاية السنة على أبعد تقدير.

وتؤكد مصادر متابعة أن القانون لم يلحظ طريقة تمويل الهيئة التي كانت تموّل عبر "هندسات" ابتكرها الحاكم السابق رياض سلامة لضمان تسييرها، علما أن الهيئات المشرفة على الأسواق المالية تموّل عادة من مصدرين: اشتراكات المؤسسات والشركات المالية المستفيدة والمشتركة في أعمال الهيئة، والغرامات التي يفترض أن تُفرض على المؤسسات المخالفة من قِبل لجنة عقوبات يديرها قضاة، ولكن للأسف لم يتم تعيين هذه اللجنة، وكذلك المحكمة الخاصة بالأسواق المالية.

 

خلافات سياسية وطائفية

الى التراجع في النشاط الاقتصادي واعمال المؤسسات المالية والمصرفية التي حجّمت أعمال الهيئة، ثمة خلافات سياسية وطائفية داخل مجلس الهيئة وأمانتها العامة، تسللت إلى عمل الهيئة وعطلتها. بَيد أن مدير الأبحاث والاعلام لدى هيئة الأسواق المالية طارق ذبيان وصف الخلافات التي تتخبط فيها الهيئة "بالتافهة، ولا تعدو كونها نظرة مختلفة لطريقة ادارتها".

موازنة الهيئة تقدَّر سنويا بنحو مليوني دولار، فيما كان الحاكم السابق رياض سلامة يعتمد هندسات خاصة على مدى 8 أعوام لتمويل الهيئة، عبر اعطائها قرضاً من "المركزي" استثمرته الاخيرة بسندات خزينة عبر الشركة الوطنية المالية اللبنانية بفوائد مرتفعة. وعندما انتهت مدة القرض، حاول مصرف لبنان تجديده، إلا أن ثمة اعضاء في الهيئة رفضوا بحجة اعادة هيكلتها، وتطورت الخلافات داخل الهيئة الى حد لم يعد في مقدور سلامة تأمين التمويل او تجديد القرض، ما عرقل تسديد الرواتب بقيمتها الفعلية، حتى أنها اصبحت مماثلة لرواتب القطاع العام.

حاليا يعد منصوري بالتمويل، لكن ذبيان أشار الى أن الحاكم بالانابة "ينتظر اعادة النظر بهيكلة الهيئة عبر خفض عدد الموظفين، علما أن ثمة اقتراحات جاهزة في هذا الصدد لمناقشتها في مجلس الادارة، لكن مقاطعة أحد الاعضاء تعرقل البت بها".

واذا كان دور الهيئة قد تراجع بحكم الامر الواقع، إلا أن ذبيان أكد أنه "منذ تأسيس الهيئة وضعت الارضية للانظمة التي تتيح مراقبة الاسواق المالية في لبنان وحماية المستثمر عبر وحدة رقابة في السوق ترفع تقاريرها الى مجلس الادارة الذي بدوره يعالج الامور تلقائيا أو احالتها على القضاء في حال استدعت الحاجة ذلك. ولكن حاليا مع تراجع عمل الهيئة، بدأنا نسمع بشركات تعمل من دون ترخيص، وأفراد يعمدون الى فتح محال بورصة من دون ترخيص أو بيع منتجات من دون رقابة". وشدد على أن "دور الهيئة مهم جدا في هذه الفترة تحديدا حيث يفترض تشجيع الاسواق المالية وتفعيلها وتكبير حجمها، خصوصا مع تراجع دور القطاع المصرفي في تأمين التمويل للقطاع الخاص، وتاليا في متابعة اعمالها التي تكبر في هذه المرحلة، خصوصا من خلال إعطاء تراخيص للشركات والتأكد من عدم تأسيس شركات من دون ترخيص أو بيع سندات مالية للزبائن يمكن أن تكون غير صالحة للبيع، وكذلك التأكد من عدم وجود أي غش او تلاعب في التسعير في السوق".

وفيما تقول أوساط منصوري إنه يسعى لتأمين التمويل للهيئة من الدولة، يؤكد ذبيان "ضرورة تأمين التمويل أولا ومن ثم تنظيم أمور الهيئة تباعا، علما أن الهيئة حاولت تأمين التمويل عبر التواصل مع رئاسة الحكومة والمجلس المركزي في مصرف لبنان، حتى أننا اقترحنا تعديل قانون الهيئة ليكون في مقدور مصرف لبنان تمويلها، أو التمويل من الـ SDR، خصوصا أن وجود الهيئة مطلوب من المجتمع الدولي والمنظمات الدولية كونها مؤسسة اصلاحية ولا غنى عنها".

الى ذلك، تؤكد مصادر حاكم مصرف لبنان بالانابة أن لا نية لديه باقفال الهيئة، لكنها في المقابل تسأل "من اين التمويل لاستمرارية عملها؟ فالتمويل الوحيد هو من الدولة، خصوصا أنه لا يحق لمصرف لبنان تمويلها".

وتلفت المصادر الى أن "لا عمل حاليا للمؤسسة في حين أن عدد موظفيها كبير (نحو 50 موظفا، يفترض ان يصار الى خفضهم الى النصف تقريبا)، لكن ذبيان الذي يشدد على أهمية الهيئة ودورها، يرى أن عليها "التأقلم مع هذا العدد من الموظفين، خصوصا أن لا ضغط كبيرا في السوق حاليا".

المشكلة الاكبر تتعلق بالخلافات الدائمة بين اعضاء مجلس ادارة الهيئة المتفرغين، علما أن أحدهم لا يحضر الى الهيئة ويقاطع الجلسات منذ حزيران الماضي. وتحمّل مصادر متابعة الاعضاء المتفرغين مسؤولية تعطيل عمل الهيئة، إذ عليهم ايجاد حل للمعضلة وطرحها على رئيس الهيئة، علما أنه في حال خفض عدد الموظفين تصبح الكلفة اقل، وتاليا يسهل ايجاد تمويل لها.

أوساط منصوري تؤكد تمسكه بوجود الهيئة وتفعيلها نظرا الى اهميتها على الصعيد الاصلاحي والرقابي على المؤسسات المالية التي لا تشملها رقابة مصرف لبنان، داعية الى "معالجة الخلافات التي تحكم علاقات أعضاء مجلس الإدارة بعضهم ببعض، على نحو لا يؤدي إلى تعطيل البت بقضايا رئيسية عدة منها طلبات الترخيص والمراقبة بما يدفع المستثمرين الى الى العمل خارج الأطر التنظيمية والقانونية".