تهافت دبلوماسي - أمني على لبنان... تسوية الآن أو الحرب

ليس أكثر تعبيراً عن دقّة اللحظةِ التي تَضَع لبنان على حافةِ «الحرب الأخيرة» من التهافُت الدبلوماسي - الأمني الأميركي والمصري والعربي الذي ارتسم اليوم الإثنين، مُكَرِّساً السِباق المحتدم بين ولوجِ إسرائيل مرحلةً جديدة من التصعيد الميداني المتدحْرج بدتْ أقرب إلى «دق النفير»، وبين ملامح دخولِ النواة الرئيسية لـ «الخلية» التي ساهمتْ في الاستيلاد «القيصري» لتسوية غزة على خطّ مَساعي احتواءِ «عاصفة النار السبّاقة» التي بدأتْ تَلفح الوطن الصغير في الأيام الأخيرة وتوفير «قارب إنقاذٍ» له يَرْبطه عملياً بـ «رياح التغيير الكبير» في المنطقة.

فمن الزيارة التي بدأتْها الموفدةُ الأميركية مورغان أورتاغوس لبيروت وتستمرّ حتى الأربعاء، قبل وصولٍ مرتقَبٍ لمبعوثِ واشنطن السفير توماس براك، إلى محطةِ مدير المخابرات المصرية حسن رشاد في لبنان، غدا الثلاثاء، في موازاة حضور الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط الذي حطّ في «بلاد الأرز»، حيث سيبقى لنحو 48 ساعة، ديناميةٌ متعددة البُعد والاتجاه لاقاه لبنان بما يُشْبِهُ «رَبْطَ الأحزمةَ» بإزاء منعطفٍ مَصيري إما يَنْقله لضفة «الأمان» دون العبور بـ «نموذج غزة» وإما تعود تل أبيب و«حزب الله» إلى «دفة الحرب المدمّرة».
وإذ يشكّل سَحْبُ سلاح «حزب الله» المِعيارَ الرئيسي الذي يحدّد الاتجاه الذي سيسلكه الوضع اللبناني، انفجاراً مروّعاً أو انفراجاً بأقل تكلفة، فإنّ ما يَجْري واقعياً على المستوييْن الأميركي والمصري خصوصاً هو محاولةٌ لجعْل زخْم اتفاق غزة، بامتداداته الجيو - سياسية، يَنْسَحِب على «بلاد الأرز» بحيث يتم إخماد جبهته في شكل مستدام وعلى قاعدةِ حلٍّ نهائي بات الممرّ الوحيد والمفرّ الأخير من مراوحةٍ في حلقةٍ مقفلةٍ تُنْذِر بأن تستجلبَ «كرة النار» الإسرائيلية من جديد لهدفٍ صار محكوماً بأن يتحقّق بالقوة أو الدبلوماسية.

على أنّ أوساطاً مطلعة تَعتبر أنّ الدبلوماسيةَ المكثّفةَ في اتجاه بيروت ولاسيما من الطرفين اللذين شكّلا (مع قطر) قاطرةً لمسار اتفاق غزة، أي واشنطن والقاهرة، والرامية إلى تأمين إطارٍ تَفاوُضي بين لبنان وإسرائيل يساهم في بلوغِ تسوية السلة الواحدة، يَعترضها حقلُ ألغامٍ يَصعب تقديرُ هل سيكون ممكناً تَجاوزه وتالياً تَفادي أن يَنفجر بأيّ عمليةٍ دبلوماسية يُراد أن تجنّب بيروت «تَجَرُّع» كأسِ حربٍ يخشى كثيرون أن ظروفها أصبحتْ أكثر نضوجاً في ضوء تَبَلْوُر «بنك أهدافها» السياسي وانكشافه على التحولات الهائلة في المنطقة.

مباشر أو غير مباشر

وأكثر الألغام خطورة في رأي هذه الأوساط هو أن لبنان الرسمي، سيدخل أي مسار تفاوضي، مباشر أو غير مباشر، وهو لا يتحكّم بورقة سلاح الحزب الذي يُعانِد تسليمَ سلاحه ويراهن على شراء الوقت وتَبَدُّل الظروفِ أو إمكان تَكرارِ تجربة اتفاق 27 نوفمبر لوقف النار الذي نصّ على سحب سلاحه من جنوب الليطاني وشماله ولكن الحزب فسّره على أنه محصور بالشقّ الأول ويتنصّل تبعاً لذلك من الالتزام به مع التذرع أيضاً بعدم تطبيق إسرائيل مندرجات الاتفاق (الانسحاب من التلال المحتلة وإطلاق الأسرى).

وعلى جبهة لبنان، فإنّ لا شيء يَملكه لبنان للتفاوض عليه و«تسليمه» كنوعٍ من «الفدية» لمنْع تَوَسُّع الحرب وبلوغ «شاطىء الأمان» إلا سلاح «حزب الله» الذي يقبع «زر التحكم» به في طهران أولاً، وسط صعوبة تَصَوُّر أن تقبل واشنطن أو تل أبيب بأيّ مساراتٍ تشكل تكراراً لما رافق اتفاق 27 نوفمبر أو القرار 1701 وتالياً فهما ستصران على آلياتٍ تنفيذية واضحة ومجدوْلة وتحت مطرقةٍ ستكون هذه المرة في يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفريقه الرئيسي، على غرار ما حصل في غزة، وهو ما يفسّر ارتياب الحزب من أي عملية تفاوضيةٍ ستَعْني دمْجاً للاتفاق الذي علّق حربَ لبنان الثالثة وورقة براك التنفيذية ومخرجات الـ 1701.


من هنا، انشدّت الأنظار إلى زيارة أورتاغوس التي وصلت آتية من إسرائيل، على أن تلتقي غداً الثلاثاء، الرؤساء جوزف عون ونبيه بري ونواف سلام وشخصيات سياسية قبل أن تشارك غداً في اجتماع لجنة الإشراف على تطبيق اتفاق 27 نوفمبر الخماسية التي يترأسها جنرال أميركي.

وأفادت تقارير بأنّ اورتاغوس تحمل معها رسالة تتخطّى ملف حصرية السلاح لتشمل إيجاد آلية للتفاوض مع إسرائيل في زمنٍ غير بعيد «ما يعني أنّ المهلة المحددة لاتخاذ إجراءات ملموسة قد تكون أسابيع وليس أشهراً»، بما يشي بأن واشنطن ستحضّ لبنان على التحرك الآن وليس غداً وقبل فوات الأوان.

وإذ نقل موقع «أساس» عن مَصادر دبلوماسيّة أوروبيّة «أنّ لبنان بحاجة إلى مفاوضات جدّيّة وحلّ سياسيّ، وإلّا فإنّ ما ينتظره سيّئ جدّاً»، فإن مصادر مطلعة أبلغت إلى «الراي» أن هناك مَن سمع مِن المعنيين بالملف الأمني نصائح بوجوب أن تستفيد بيروت من الفرصة التي يشكّلها وجود ترامب واندفاعته لإطفاء الحروب واستخدامها كقوةِ ضغطٍ على إسرائيل، كما حصل في ملف غزة، لتحقيق أهداف لبنان من الحلّ المستدام (الانسحاب والأسرى وتثبيت الحدود وبت النقاط الخلافية) وتَفادي خيار الحرب، وهو ما يتطلّب أن «يُعطي» في ملف سلاح «حزب الله»... وإلا.

مدير المخابرات المصرية

أما الزيارةُ المرتقبة غداً لمدير المخابرات المصرية، فتكتسب بدورها أهميةً استثنائية في ضوء الدور المحوري الذي لعبه حسن رشاد شخصياً في ملف غزة والمفاوضات المضنية لبلوغ الاتفاق، وسط اعتبار المصادر المطلعة أن هذه المحطة أبعد من مجرّد وضع لبنان في أجواء ما هو على المحكّ في حال بقيت المراوحة الحالية ووجوب «التحوّط» ما يعنيه توسع الاعتداءات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة في المدى الجغرافي ووتيرتها والشكل الذي اتخذتْه، وفق ما أعلنه السفير المصري في بيروت علاء موسى.

وبحسب المصادر فإن شخصية من وزن رشاد لا يمكن أن تبدأ حِراكاً في الملف اللبناني باسم مصر، إلا على أساس إطارٍ ما أو تَصَوُّرٍ ما لحلٍّ متكامل على صعيد لبنان، يُستبعد أيضاً ألا يكون جرى التمهيد له مع الشركاء الدوليين والاقليميين في التسوية التي أنهت حرب القطاع.

وقال السفير المصري بعد لقائه عون «تطرقنا إلى الأوضاع في لبنان خصوصاً أن الأمور تتطوّر، وهناك خروق واعتداءات إسرائيلية وبأشكال متنوعة من حيث المدى الجغرافي او من حيث الاستهدافات، أو وتيرة الأعمال وهذا ما يجب التحوط منه بشكل كبير».

وأضاف «كما استمعت من فخامة الرئيس حول ما يقوم به من جهد في عدد من الملفات، ومنها حصرية السلاح في يد الدولة، وحديثه عن مسألة استعداد لبنان للدخول في مفاوضات من أجل الوصول إلى تسوية نهائية لقضية الخروق الإسرائيلية وللاحتلال الإسرائيلي لمناطق في لبنان. وأعتقد أن مصر لديها القدرة على تقديم يد العون. كما تناولنا الزيارة المرتقبة لدولة الرئيس نواف سلام لمصر في نهاية هذا الأسبوع، وستكون فرصة أيضاً لتطرح مصر على دولته أموراً متعلقة بالوضع في لبنان وبمختلف التحديات».

وعن زيارة مدير المخابرات، أكد أنه «في ما يخص ملف لبنان، هناك تعاون وتنسيق كامل على المستوى السياسي والأمني، وهذه أمور يتم التشاور فيها مع الجانب اللبناني. وكما قلت لكم إن ما يحدث في المنطقة، وما أخذه شكل الخروق الإسرائيلية ضد لبنان والمدى الذي وصلت إليه، يستدعي أن يكون هناك تحرك من أصدقاء لبنان ومَن لهم علاقات مع مختلف الأطراف، ما يساعدنا أولاً على وقف هذا الأمر، وثانياً أن نصل لحل جذور المشكلة من أساسها. وهذا الدور تقوم به مصر على المستويين السياسي والأمني».

وهل زيارة مدير المخابرات للبنان تحمل تهديداً أم تحمل مبادرة جديدة، ردّ: «سأؤكد لكم مرة أخرى أن ما يحصل من تطور في الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، سواء في مداها الجغرافي، أو في وتيرتها أو في أهدافها أو نوع الأهداف يجعلنا في الحقيقة نحتاط مما هو قادم في المستقبل. فعندما تتحدث مصر، أو تتحرك، أو يتوسط بعض المسؤولين المصريين ليس بهدف التحذير، ولا لنقل رسائل تهديد بل هي تسعى إلى مشاركة الطرف اللبناني في ما تراه من أمور يجب أخذ الاحتياط منها. وهذه هي المقاربة المصرية وما تقوم به مصر على مستوى مسؤوليها».

وفي الوقت الذي زار السفير المصري أيضاً سلام، فإنّ إعلان مكتب الصحافة التابع للكرسي الرسولي، البرنامج الرسمي للزيارة الرسولية التي سيقوم بها البابا ليو الرابع عشر للبنان بين 30 نوفمبر و2 ديسمبر المقبل، لم يبدّد الخشيةَ من مناخات التوتر العالي التي تسود الميدان العسكري والتي باتت تثقل على محطة تاريخية جديدة تنتظرها «بلاد الأرز» التي تتكاتف عليها الأزمات.