ثروات لبنان المهرّبة: 10.8 مليار دولار في جنّات ضريبيّة

منذ حصول الانهيار المالي، لم يحصل تحقيق جدّي واحد في ما يخص الأموال التي جرى تهريبها بشكل استنسابي بعد تشرين الأوّل 2019، لمصلحة كبار النافذين داخل النظام المالي. فالقضاء اللبناني أحال جميع المراجعات المتعلّقة بهذه القضيّة إلى هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، باعتبار أنها الجهة الوحيدة القادرة على تخطّي حواجز السريّة المصرفيّة، حسب القانون. أمّا الهيئة، فلم تعتبر وجود هذه التحويلات الاستنسابيّة مسألة تستحق المتابعة بحد ذاتها، بعد أن ارتأت أن عدم وجود قانون للكابيتال كونترول لا يجعل من التحويلات الاستنسابيّة فعل جرمي، إلّا إذا انطوت التحويلات على عمليّات تبييض أموال مثلًا.

تقصير هيئة التحقيق الخاصّة
ولهذا السبب، كانت هيئة التحقيق الخاصّة تعتمد على التأكيدات التي تقدمها المصارف، بعدم وجود شبهات مرتبطة بهذه التحويلات. بمعنى آخر، وبدل محاسبة المصارف على الاستنسابيّة في التعامل مع المودعين، والسماح بتهريب بعض الودائع مقابل حبس معظمها، كانت هيئة التحقيق الخاصّة تتعامل مع التحويلات كمسألة طبيعيّة وبديهيّة لا تستحق الملاحقة بحد ذاتها، فيما اكتفت بإعطاء المصارف نفسها صلاحيّة التأكّد من أن التحويلات لم تنطوِ على عمليّات تبييض أموال. وهكذا، تحوّلت المصارف من مُدان في هذه القضيّة، إلى الحكم الذي يبت فيها!

مع الإشارة إلى أنّ تقاعس هيئة التحقيق الخاصّة يرتبط بتضارب الصلاحيّات الذي يقيّد عملها، بحكم ترؤّس حاكم مصرف لبنان المسؤول عن تنظيم عمل القطاع المصرفي، الهيئة التي يفترض أن تلاحق هذا النوع من العمليّات غير المشروعة. وتضارب المصالح هنا ينشأ تحديدًا من عدم امتلاك الحاكم نفسه المصلحة في ملاحقة عمليّات تهريب الأموال، التي نتجت عن طريقة إدارته لنشاط القطاع المصرفي، وعدم مبادرته لوضع التنظيمات التي تحول دون حصول هذه العمليّات. مع العلم أن قانون النقد والتسليف نفسه منح الحاكم صلاحيّة وضع هذا النوع من التنظيمات، التي تكفل حسن علاقة المودعين بالمصارف، بما يشمل حكمًا التأكّد من عدم وجود استنسابيّة في التعامل في ما بينهم.

أرقام "بنك التسويات الدوليّة"
إلا أن تقاعس هيئة التحقيق الخاصّة لا يعني عدم وجود أرقام يمكن الاستناد إليها لتتبّع جزء من الأموال التي تم تهريبها إلى الخارج، وتحديدًا تلك التي اتجهت نحو الجنّات الضريبيّة التي عادة ما يلجأ إليها "كبار المودعين" في مثل هذه الحالات. وفقًا لأرقام "بنك التسويات الدوليّة"، التي قامت صحيفة لوريان بنشرها منذ أيّام، ارتفعت قيمة ودائع المقيمين في لبنان لدى مصارف سويسرا ولوكسمبورغ وجيرسي بنحو 1.218 مليار دولار أميركي، خلال الفترة الممتدة بين بداية تشرين الأوّل 2019 وبداية كانون الثاني 2020، أي خلال فترة لم تتجاوز الشهرين فقط. وهذا الارتفاع السريع، يمثّل تحديدًا الأموال التي جرى تحويلها إلى هذه الدول بشكل استنسابي، في بدايات الأزمة المصرفيّة، في الوقت الذي قامت فيه المصارف بفرض القيود غير الرسميّة على سائر المودعين. وبعد كانون الأوّل 2020، استمر حجم ودائع المقيمين في لبنان لدى هذه الجنّات الضريبيّة بالارتفاع، ليتخطى إجمالي هذه الودائع حدود 10 مليار دولار منذ منتصف العام 2020، وصولًا إلى 10.8 مليار دولار اليوم.

حركة الأموال المهرّبة
تجدر الإشارة إلى أن حجم ودائع اللبنانيين في مصارف الجنات الضريبيّة الثلاث كان قد تجاوز حدود 10 المليار دولار أيضًا قبل العام 2008، أي قبل حصول الأزمة الماليّة العالميّة. إلا أن حصول الأزمة الماليّة العالميّة بعد العام 2008 أدّى إلى انخفاض سريع في حجم هذه الودائع لاحقًا، لتصل إلى ما دون 6 مليارات دولار خلال العام 2010، ثم إلى ما دون 4.6 مليارات دولار في الربع الأوّل من العام 2015. ومع بدء عوارض الأزمة الماليّة اللبنانيّة بالظهور خلال العام 2016، عاد حجم هذه الودائع إلى الارتفاع منذ ذلك الوقت، فيما تسارع تراكم ودائع اللبنانيين في الجنات الضريبيّة منذ العام 2019، بعد حصول الانهيار المصرفي، لتتجاوز اليوم حدود 10.8 مليار دولار.

كل ما سبق يؤكّد أن تراكم ودائع اللبنانيين في الجنات الضريبيّة في الخارج ارتبط بشكل وثيق بالأزمة المصرفيّة في لبنان، وبمحاولة كبار المودعين تحييد ثرواتهم عن تبعات هذه الأزمة، سواء قبل 2019 أو بعده. أمّا اختيار هذه الجنات الضريبيّة بالتحديد، فجاء بسبب سهولة فتح الحسابات في هذه الدول ومرونة أنظمتها الماليّة، بالإضافة إلى انخفاض رسومها الضريبيّة مقارنة بدول أخرى. وبذلك، وبينما كان أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة يعانون من تبعات الأزمة المصرفيّة وحبس ودائعهم في لبنان، كان لدى الفئات الأكثر نفوذًا قدرة تهريب ثرواتهم إلى الخارج في المرحلة نفسها، وقدرة فتح الحسابات المصرفيّة في الجنات الضريبيّة التي عادة ما تُحصر الاستفادة منها بفئة كبار المودعين.

على أي حال، من الأكيد أنّ عمليّات تهريب الودائع لم تقتصر على التحويلات التي جرت باتجاه هذه الجنات الضريبيّة الثلاث، ما يعني أن هذه الأرقام لا تختزل وحدها ما تم تهريبه من أموال خلال سنوات الأزمة. فبالإضافة إلى العديد من الأنظمة المصرفيّة والأسواق العقاريّة الأخرى التي استوعبت أموال كبار المودعين الهاربة من لبنان، ثمّة جزء الودائع المصرفيّة اللبنانيّة التي تم تهريبها عن طريق السحوبات النقديّة المباشرة من الفروع المصرفيّة. ولهذا السبب بالتحديد، من الصعب التحقق من حجم الأموال المهرّبة الإجمالي، دون تحقيق يبدأ من داخل الميزانيّات المصرفيّة اللبنانيّة نفسها.