المصدر: نداء الوطن
الكاتب: جو رحال
السبت 14 حزيران 2025 07:44:10
في لحظة إقليميّة متفجّرة، ومع تسجيل واحدة من أعنف الضربات الإسرائيلية على العمق الإيراني منذ عقود، استطاع رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون أن يثبّت معادلة استراتيجية مفادها أنّ لبنان ليس ساحة، ولا منصّة، ولا صندوق بريد في لعبة النار الإقليمية.
فجر الجمعة، نفّذت إسرائيل هجوماً جوياً خاطفاً استهدف مواقع عسكرية ونووية داخل إيران، من أصفهان إلى طهران وشيراز. وقد اعتبر محللون غربيون أن الضربة تُعدّ الأشدّ منذ نشأة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، نظراً لحجمها، وجرأتها، ودقة أهدافها الحيوية، ما منحها طابعاً استراتيجياً غير مسبوق، فاجأ حتى الدوائر الدولية المتابعة.
وفيما كانت التوقّعات تشير إلى احتمال اشتعال الجبهات المرتبطة بمحور طهران، ظهرت بيروت كأنها خارج معادلة التصعيد. لم تُسجّل أيّ تحركات ميدانية لافتة، ولا بيانات نارية، بل ساد هدوء ميداني وسياسي عكس قراراً رسمياً واضحاً بتحييد لبنان عن دائرة الردود.
هذا التوازن لم يكن ارتجالاً. فمنذ اللحظة الأولى، تحرّك الرئيس عون على محورين متوازيين: أمني ودبلوماسي. على المستوى الأمني، طلب من قيادة الجيش اتخاذ إجراءات وقائية مشدّدة على طول الحدود الجنوبية، بالتنسيق مع قوات اليونيفيل. وعلى المستوى السياسي، فُعّلت قنوات التواصل مع باريس وواشنطن لضمان تحصين الساحة اللبنانية من أي تداعيات محتملة.
وفي دلالة على إدراكه حراجة الظرف، قلّص الرئيس عون جدول زيارته الخارجية، وعاد إلى بيروت مساء الأمس بدلاً من صباح اليوم، لمتابعة التطوّرات والإشراف شخصياً على التنسيق السياسي والأمني
وبعد ساعات من عودته، أصدر الرئيس بياناً رسمياً أدان فيه الغارة الإسرائيلية على إيران، واصفاً إياها بأنها "انتهاك للسيادة وتصعيد يهدّد أمن المنطقة برمّتها"، مشدداً على أن "لبنان يرفض أن يكون ساحة لأي تصفية حسابات إقليمية مسلّحة".
من جهتها، أعلنت الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام موقفاً متقارباً، إذ أكدت في بيان رسمي رفضها المطلق "استباحة سيادة الدول تحت أي ذريعة"، ودعت إلى ضبط فوري للتصعيد، مشيرة إلى أن أولوية لبنان القصوى تبقى حماية الاستقرار الداخلي بالتكامل بين المؤسّسات الشرعية والدستورية.
هذا التناغم بين بعبدا والسراي الحكومي ساهم في تحصين الموقف اللبناني وتكريس صورة استثنائية من الانسجام السيادي، في لحظة كان من السهل أن تستغلها القوى الإقليمية لفرض اصطفافات أو رسائل بالنار.
وقد نقلت مصادر دبلوماسية أوروبية أن فرنسا والولايات المتحدة أبلغتا بيروت دعمهما الكامل للنهج اللبناني الهادئ والمسؤول، وأشادتا بأداء الجيش في ضبط الإيقاع الأمني جنوباً، ومنع أي انزلاق أو استفزاز متبادل.
وفي موازاة ذلك، التزم "حزب اللّه" الصمت الإعلامي والعسكري، ما فُسّر في بعض الأوساط بأنه تجاوب غير مباشر مع الموقف السيادي الرسمي. وأكد هذا الاتجاه نائب الأمين العام "للحزب" الشيخ نعيم قاسم، الذي صرّح مساء الجمعة بأن "المقاومة تتابع وتراقب وتحدّد توقيت الردّ وأسلوبه بما يتناسب مع المعركة الشاملة"، وهو تصريح فُهم منه أن لا نية حالية لفتح جبهة الجنوب اللبناني، في انتظار ما ستؤول إليه المواجهة الكبرى.
في المحصّلة، يمكن القول إن الدولة اللبنانية – برئاستها وحكومتها – نجحت في تثبيت تحييد واقعي مدروس وسط نزاع إقليمي مشتعل. تحييد لم يُبْنَ على الحياد الإنشائي، بل على قراءة دقيقة للمخاطر، وعلى تموضع سياسي متوازن يجنّب لبنان الانخراط في مواجهات لا تخدم مصالحه، دون أن يساوم على سيادته أو استقلال قراره.
وفي زمن الحروب المفتوحة والخرائط المتبدّلة، استطاع العهد أن يعلنها بصوت واضح:
لبنان ليس ساحة… ولا رسالة.