حدود لبنان وسوريا: ورقة باراك والجيش وأهل السلاح والتهريب

قبل أيّ نزاعٍ حدوديٍّ بين لبنان وسوريا، وقبل طرح ورقة المبعوث الأميركيّ توم باراك، لضبط الحدود وترسيمها، وقبل الثّورة السّوريّة وتدويل الصّراع وتمدّده إلى لبنان، بل حتّى قبل حقبة الاحتلال السّوريّ، كان هناك معتقدٌ سوريٌّ غير معلنٍ لكنّه نافذ الأثر: عدم الاعتراف بلبنان دولةً وحدودًا. وهذا بالذّات كان العائق الفعليّ أمام أيّ ترسيمٍ. منذ الخمسينيّات رأى الطّرف السّوريّ مصلحةً في إبقاء الحدود رخوةً و"سائبةً"، بذريعة تهريب السّلاح إلى "الثّوّار" عام 1958. ومع وصول حزب البعث، ترسّخ رفض التّرسيم لسببين: حاجةٌ دائمةٌ إلى منفذٍ اقتصاديٍّ، شرعيٍّ وغير شرعيٍّ، عبر لبنان؛ ولتوفير ذريعةٍ مستمرّةٍ للوصاية والتّدخّل في شؤونه.

ومنذ منتصف السبعينات، توزّعت السّيادة هناك بين وصايةٍ أمنيّةٍ ومخابراتيّةٍ سوريّةٍ متغلغلةٍ في تفاصيل الحياة اليوميّة، ونفوذٍ سياسيٍّ مكتمل الأركان للثّنائيّ الشّيعيّ، فيما يسمو الولاء العشائريّ والعائليّ على أيّ قانونٍ أو انتماءٍ آخر. أمّا الدّولة فاقتصر دورها على حدّها الخدميّ الأدنى. في المقابل، كان سكّان الشّريط الحدوديّ للبقاع فئةً تجمعها شبكة مصالح اقتصاديّةٍ متداخلةٍ (اقتصاد التّهريب) وروابط قرابةٍ ممتدّةٌ إلى الدّاخل السّوريّ: تاريخٌ طويلٌ من المصاهرة والاختلاط، ووشائج اجتماعيّةٌ وثقافيّةٌ يصعب ضبط حدودها؛ علاقاتٌ تمسّ تفاصيل اليوميّ، واتّصال قديمً قدم وجود السّكّان على طرفي الحدود.

اليوم، وتحت وطأة ضغطٍ دبلوماسيٍّ طارئٍ يشترط ضبط حدود لبنان من أقصى شماله إلى جنوبه، ومن شرقه حتّى بحره، يجد هذا البلد الصّغير نفسه أمام مأزقٍ مركّبٍ: لوجستيٍّ وقانونيٍّ وسياسيٍّ ودبلوماسيٍّ، بل وسوسيولوجيٍّ واقتصادي أيضًا. وتغدو الأولويّة تطبيع العلاقة بين سكّان الحدود والجيش الّذي يواصل انتشاره على كامل الخطّ الحدوديّ، بوصفه الخطوة الأولى والأكثر حساسيّةً ومشقّةً.

 

حدودٌ أطول من الجغرافيا وأقصر من السّياسة

لا يحتاج المرء إلى الخرائط ليدرك أنّ خطّ التّماسّ بين لبنان وسوريا أطول من المصطلح التّقنيّ "375 كلم"، وأقصر من شهيّة السّياسة لتطويعه. هذا الخطّ الجبليّ الوعر، المكسوّ بممرّاتٍ ضيّقةٍ ووديانٍ منسيّةٍ، لم يرسّم رسميًّا في مساحاتٍ واسعةٍ، وظلّ عمليًّا شريطًا سائبًا يختلط فيه القانون بالعرف، وتبسط عليه العشائر والاقتصاد غير النّظاميّ آليّات ضبطٍ بديلةً عن الدّولة. الأرقام الّتي تستدعى في كلّ تقريرٍ -طول الحدود ونقص الإشارات وغياب التّرسيم الكامل- تظلّ ثابتةً: حدودٌ ممتدّةٌ بنحو 375 كيلومترًا، وستّة معابر شرعيّةٍ فقط، وبقيّة النّقاط جعلتها التّضاريس سوقًا مفتوحةً للمرور من دون جوازاتٍ أو جمارك.

ومع أنّ الحدود، في الزّمن "السّوريّ السّابق"، كانت أداة سيطرةٍ لا حاجة معها إلى خطوطٍ نهائيّةٍ، فإنّ تبدّل السّلطة في دمشق نهاية 2024، وما تبعه من اضطراباتٍ، أعاد الملفّ إلى الواجهة بنبرةٍ مختلفةٍ: نبرةٍ تقول إنّ التّرسيم ليس ترفًا قانونيًّا، بل شرط اقتصادي وأمني للمرحلة المقبلة. هكذا سمعنا من وزارةٍ في الحكومة السّوريّة الجديدة كلامًا عن "الانفتاح على التّعاون" في التّرسيم، لا حبًّا ببيروت، بل لأنّ ذلك قد يفتح أبواب "التّعاون الاقتصاديّ الواسع" بين البلدين.

 

انتشار الجيش: بين ما يلزم وما هو ممكنٌ

منذ سنين، ينشر الجيش اللّبنانيّ "أفواج الحدود البرّيّة" على طول الشّريطين الشّماليّ والشّرقيّ، وهو انتشارٌ بني تدريجيًّا مع دعمٍ تقنيٍّ ولوجستيٍّ كثيفٍ من شركاء أوروبّيّين، خصوصًا بريطانيا الّتي موّلت مشروع أبراج مراقبةٍ وكاميراتٍ واتّصالاتٍ، وصولًا إلى الحديث اليوم عن نقل التّجربة إلى الجنوب أيضًا. هذا الدّعم، وفق بياناتٍ بريطانيّةٍ، شمل إنشاء أكثر من 78 برجًا حدوديًّا وتدريب عشرات الآلاف من العسكريّين وتجهيز وحداتٍ برّيّةٍ بمركباتٍ وآليّاتٍ. وفي تقارير أخرى يظهر رقمٌ أقرب إلى "الأربعين" برجًا على الشّمال والشّرق. والفارق بين الرّقمين يعود إلى اختلاف التّصنيف بين "برج مراقبةٍ" دائمٍ أو موقع رصدٍ ميدانيٍّ. المهمّ أنّ الشّبكة موجودةٌ والعمل جارٍ على سدّ الثّغرات.

لا يخفى على أحدٍ أنّ تهريب السّلع والوقود والمواشي والدّواء -ثمّ المخدّرات والسّلاح- حوّل الشّريط الحدوديّ إلى اقتصادٍ قائمٍ بذاته، له مقاولو نقلٍ، وحماةٌ، ووكلاء، و"مصارف ظلٍّ". تقديراتٌ غربيّةٌ تشير إلى وجود أكثر من 130 معبرًا غير شرعيٍّ على طول الحدود، من بينها العشرات في البقاع الشّماليّ حيث النّفوذ التّاريخيّ لحزب الله. لا يهمّ الرّقم الدّقيق بقدر ما تهمّ دلالته: إنّه ليس "تسرّبًا" بل "نظام". ومع أنّ انهيار النّظام السّوريّ السّابق، أطلق حملات ملاحقةٍ ضدّ خلايا "كبتاغون" وشبكات سلاحٍ على الطّرفين، فإنّ الشّبكات لا تموت بسهولةٍ، بل تتكيّف مع الميدان الجديد.

تاريخيًّا، تحوّل الأمن الحدوديّ إلى "هندسةٍ" ميدانيّةٍ صرفةٍ: حفر خنادق، إقامة سواتر ترابيّةٍ، قطع ممرّاتٍ جانبيّةٍ، وإقفال معابر كلّما فتحت من جديدٍ. أفواج الحدود الأربعة الّتي تتوزّع من العريضة حتّى معربون تعمل ضمن تضاريس لا تسمح بانتشارٍ خطّيٍّ متّصلٍ، ما يجعل "الانضباط بنسبة مئةٍ في المئة" هدفًا تقريبيًّا لا أكثر. وفي الوقت نفسه، تبقى قوّة الجيش في الشّمال والشّرق رهينة عديدٍ وتجهيزٍ ورواتب؛ ثلاثة عوامل تصنّف اليوم في خانة "الحاجة الملحّة" أكثر منها في خانة "القابل للتّحسين".

 

حادثة معربون: عيّنةٌ من اختبار الإرادة

وعلى سبيل المثال، ليست حادثة معربون، مطلع كانون الثّاني 2025، مجرّد تفصيلٍ "أمنيٍّ". ثمّة رمزيّةٌ فيها: وحدةٌ عسكريّةٌ تتقدّم لإغلاق معبرٍ غير شرعيٍّ، وجرافةٌ تحاول إعادة فتحه، واشتباكٌ مسلّحٌ يوقع إصاباتٍ في صفوف الجيش. بيانات الجيش، ووكالة "الوطنيّة"، وتقارير إعلاميّةٌ متقاطعةٌ، رسمت مشهدًا واضحًا: قرارٌ سياسيٌّ بدعم الإقفال، اصطدم بإصرار مجموعاتٍ محلّيّةٍ على استمرار العبور. من سرغايا إلى معربون، بدت اللّحظة اختبارًا لجدّيّة الضّبط وقدرة الدّولة على "فرض" القانون على شبكة مصالح تعلّمت طويلًا كيف تتفلّت من كلّ ضبطٍ. بعد أيّامٍ، جاء الكلام عن وساطاتٍ واتّصالاتٍ سياسيّةٍ لاحتواء التّوتّر ومنع تحوّله إلى نمطٍ متكرّرٍ. لم يكن الأمر عابرًا: فالحدود الّتي تفصل بين "الدّولة" و"الاقتصاد الموازي" ليست مرسومةً بالطّبشور؛ إنّها خطوطٌ رفيعةٌ تتغيّر مع الرّيح.

 

ورقة باراك: من وقف الأعمال العدائيّة إلى ترسيمٍ مزدوجٍ

في هذا السّياق نزلت "الورقة الأميركيّة" -الّتي تعرف الآن اصطلاحًا بـ"ورقة توم باراك"- كخريطة طريقٍ قاسيةٍ وواضحةٍ: تمديدٌ وتثبيتٌ لوقف الأعمال العدائيّة بين لبنان وإسرائيل، جدولٌ زمنيٌّ لإعادة انتشارٍ وانسحابٍ، وتعهّدٌ لبنانيٌّ بالتّعامل مع السّلاح خارج الدّولة، ونشر الجيش على الحدود، وترسيم البرّ حيث أمكن، والأهمّ في سياقنا: إدراج الحدود الشّرقيّة والشّماليّة مع سوريا ضمن الرّزمة نفسها، بوصفها شرطًا لإنهاء "اقتصاد الحرب". الحكومة اللّبنانيّة سارعت إلى "إقرار الأهداف" فيما انفجرت السّياسة في بيروت: انسحاباتٌ من جلسة الحكومة، وتحفّظاتٌ، وصخبٌ حول "الواقعيّة" و"الكرامة". ثمّ توالت التّسريبات: أربع مراحل تنفيذٍ، وأحد عشر بندًا، وخطٌّ زمنيٌّ يتحدّث عن إنجازاتٍ كبيرةٍ قبل نهاية 2025.

تقول الورقة، كما نشر نصّها في "المدن"، إنّ ضبط الحدود مع سوريا ليس ملحقًا "شرقيًّا" بخطّةٍ "جنوبيّةٍ"، بل جزء عضوي من فكرة بسط سيادة الدّولة على سلاحها ومرافئها وممرّاتها. ويفهم من الصّياغة، كما قرأها مراقبون، أنّ واشنطن تريد "صفقةً كاملةً" تخرج لبنان من اشتباكاته المتعدّدة في الجنوب والشّرق معًا، تمهيدًا لتسويةٍ أوسع مع إسرائيل، واستيعاب متغيّرات دمشق الجديدة. وفي موازاة ذلك، خرجت إشاراتٌ رسميّةٌ من دمشق تفيد بأنّ "التّرسيم والتّعاون الأمنيّ" مع لبنان "قادران على فتح تعاونٍ اقتصاديٍّ واسعٍ"، وهو خطابٌ براغماتيٌّ لا يشبه لغة "الوصاية". إشارةٌ أخرى جاءت من المشهد الرّمزيّ لزيارةٍ لبنانيّةٍ رفيعةٍ إلى العاصمة السّوريّة بعد انقطاعٍ طويلٍ، عنوانها "توضيب الملفّات" من الحدود إلى المودعين السّوريّين في المصارف اللّبنانيّة، وبانتظار الزّيارة السّوريّة المؤجّلة دومًا. التّبدّل هنا ليس لغويًّا فحسب؛ إنّه اعترافٌ بأنّ حدود اليوم تساوي أبواب اقتصاد الغد.

اليوم، وبينما تتشدّد وحدات الجيش في سدّ المعابر، تتبدّل خرائط العيش: عائلاتٌ شيعيّةٌ كانت قد استوطنت في قرى سوريّةٍ تعود إلى الدّاخل اللّبنانيّ، مقابل اعتقالاتٍ في الضّفّة الأخرى طالت سوريّين محسوبين على تشكيلاتٍ من بقايا النّظام السّابق ولبنانيّين متّهمين بالتّهريب. حوض العاصي (ريف القصير) يظهر بوصفه مختبرًا لعلاقةٍ جديدةٍ بين "إدارةٍ سوريّةٍ معدّلةٍ" وحزب الله، تراد لها أن تعيد صياغة الدّيموغرافيا والأمن. هذا كلّه يقول إنّ التّرسيم، يوم يأتي، سيحتاج إلى قاضٍ قبليٍّ بقدر ما يحتاج إلى مسّاحٍ قانونيٍّ.

 

الواقع من غرفة العمليّات

وفي هذا السّياق، أكّد مصدرٌ أمنيٌّ رفيعٌ في حديثه إلى "المدن" أنّ الجيش اللّبنانيّ "يمسك كامل الشّريط الحدوديّ من أقصى الشّمال في العريضة وصولًا إلى معربون في الجنوب الشّرقيّ"، مشيرًا إلى أنّ المهمّة يتولّاها أفواج الحدود البرّيّة الأربعة مدعومةً بنحو 41 برج مراقبةٍ ووسائل رصدٍ متعدّدةٍ. ولفت إلى أنّ عدد العناصر المنتشرة على امتداد الحدود "يتراوح بين 4500 و5000 عسكريٍّ"، مضيفًا: "كلّما زاد العديد كان ذلك أفضل، لكنّنا ننفّذ المهامّ بالمتوافر بين أيدينا من عتادٍ ومعدّاتٍ وآليّاتٍ".

وأوضح المصدر أنّ الحدود الممتدّة حوالى 370 كيلومترًا "واسعةٌ ووعرةٌ بطبيعتها، ولا تسمح بانتشارٍ عسكريٍّ متّصلٍ على كامل الخطّ"، ما يجعل "الضّبط بنسبة مئةٍ في المئة غير ممكنٍ". ومع ذلك، يؤكّد أنّ الوحدات "تقوم بعمليّاتٍ متواصلةٍ لضبط التّهريب والمخدّرات وسائر المهامّ المكلّفة بها"، وتشمل الإجراءات حفر خنادق، إقامة سواتر، وإقفال معابر يحاول المهرّبون فتحها دوريًّا. "نعمل على سدّ الثّغرات قدر المستطاع، ويعدّ الانتشار الحاليّ مقبولًا ويتيح تنفيذ المهمّات على أكمل وجهٍ"، يقول المصدر.

وبشأن التّعاون مع الجانب السّوريّ، يوضّح أنّه عقدت اجتماعاتٌ شارك فيها مسؤولون عسكريّون وأمنيّون من البلدين، "وأقرّت صيغةٌ لإنشاء غرفة عمليّاتٍ ولجانٍ مشتركةٍ لمعالجة المشكلات على طرفي الحدود". ووفق قوله، "أثبتت هذه الصّيغة نجاحها؛ إذ عولجت أكثر من حادثة تهريبٍ وغيرها فورًا عبر التّنسيق المباشر".

تعليقًا على النّقاشات الدّوليّة حول دعم الجيش المشروط بالإصلاحات وبنشر وحداتٍ إضافيّةٍ، يؤكّد المصدر: "نحن نطلب الدّعم دائمًا، لكن لم يصلنا بعد جوابٌ تفصيليٌّ بشأن التّمويل". ويضيف: "الحاجة ملحّةٌ على مستوى التّجهيزات واللّوجستيّات والعتاد والعديد، وكذلك على المستوى الفرديّ لجهة الرّواتب وتحسين أوضاع العسكريّين". ويشدّد على أنّ القيادة "تركّز على الطّبابة وظروف الفرد العسكريّ ومدارس أولاده ورعاية عائلته، ليكون قادرًا على أداء مهمّاته".

في ما يخصّ النّقاط الخلافيّة على الحدود، يذكّر بأنّ "التّرسيم يقع على عاتق الدّولة اللّبنانيّة بالتّفاهم مع الدّولة السّوريّة". ويشير إلى مناطق متداخلةٍ و"قرًى لبنانيّةً داخل الأراضي السّوريّة يقدّر عددها بنحو 30 قريةً"، إضافةً إلى اختلافٍ في الخرائط بين الجانبين. "هذه مسائل تقنيّةٌ وسياسيّةٌ تستوجب تعاونًا مباشرًا لتثبيت الحدود نهائيًّا، بحيث يتولّى كلّ طرفٍ معالجة مشاكله داخل منطقته"، يوضح. وحول ما إذا كانت معابر أو نقاطٌ كانت سابقًا تحت سيطرة جهاتٍ غير رسميّةٍ ما زالت على حالها، يحسم المصدر: "الحدود كلّها ممسوكةٌ من قبل الجيش". أمّا المعابر الشّرعيّة مثل المصنع وجوسيّه وغيرها فـ"تتبع للأمن العامّ"، فيما يقوم الجيش "بتسهيل عودة الرّاغبين عندما يطلب منه ذلك"، وقد مرّرت مجموعاتٌ عبر معبر الزّمرّاني في مراحل سابقةٍ. وختم المصدر: "مهمّتنا حماية الحدود وتنفيذ القانون ضمن الإمكانات المتاحة. سنواصل سدّ الثّغرات وتعزيز الرّقابة بالتّنسيق مع الجهات المختصّة داخلًا ومع الجانب السّوريّ حين يلزم".

وفي لحظةٍ يتكاثف فيها الضّغط الدّوليّ على بيروت لتطبيق حزمةٍ متكاملةٍ من الإصلاحات، يقف الجيش في خطّ النّار: يطلب منه أن يكون "الحارس النّهائيّ" لحدودٍ غير مرسومةٍ بالكامل، وأن يمسك باقتصاد ظلٍّ متجذّرٍ، وأن يواكب في الوقت نفسه مسارًا تفاوضيًّا إقليميًّا يرسم حدود الجنوب (مع إسرائيل) والشّرق (مع سوريا) معًا. الدّعم الغربيّ قائمٌ، والبريطانيّ منه تحديدًا ثابتٌ في سياسته منذ عقدٍ على الأقلّ، لكنّ الحاجة إلى تمويلٍ مستديمٍ لوجستيًّا وماليًّا ومعنويًّا أكبر من خبرة تدريبٍ وبرج مراقبةٍ.

 

التّرسيم كـ"علم اجتماعٍ"

حين يتحدّث أهل معربون وعرسال ورأس بعلبكّ والقادع (القاع) عن "النّقاط الضّائعة" فهم لا يقصدون الخرائط فحسب. يقصدون "الحقّ" كما يفهمونه: سندات ملكيّةٍ قديمةٍ، مساحاتٍ زراعيّةٍ كانت تفلح قبل الاستقلال، "قطائع" بين عشائر، ممرّات رعيٍ، ومياه عيونٍ تتغيّر مساراتها بعد كلّ فيضانٍ. إنّ التّرسيم الحقيقيّ، لكي ينجح، يحتاج إلى محاكم عرفٍ مصغّرةٍ داخل لجانٍ تقنيّةٍ، وإلى "مترجمين اجتماعيّين" يفهمون لغة الأرض بقدر ما يفهمون لغة القانون.

في هذا الباب، قد تكون "ورقة باراك" متقدّمةً على السّياسيّ اللّبنانيّ نفسه؛ فهي تدرج الحدود السّوريّة -بكلّ عقدها- داخل الحزمة، وتربطها بانسحابٍ وانضباطٍ جنوبًا، لتقول: إن أردتم تسويةً شاملةً، فلتكن شاملةً فعلًا. وهذا ما يفسّر الاستقطاب الحادّ حولها: البعض يراها فرصةً للخروج من أكثر من حربٍ في آنٍ، وآخرون يرونها "فرض إرادةٍ" يطوّع الدّاخل في خدمة جدولٍ خارجيٍّ. وفي انتظار أن يبرد الجدال، يبقى "الحدّ" ممرًّا يوميًّا يختبر فيه معنى الدّولة.

عمليًّا، توسّعت في الأسابيع الماضية عمليّات إقفال المعابر غير الشّرعيّة في مناطق البقاع، وأعلنت وحدات الجيش تدمير مسالك جانبيّةٍ وقبضت على عشراتٍ في شبكات تهريبٍ. كلّ هذه الوواقع تقول إنّ المسألة تحوّلت من "معابر" إلى "مفاصل": مفصلٍ بين اقتصادٍ يختنق واقتصادٍ "يهرّب"، مفصلٍ بين سلطةٍ مركزيّةٍ تريد أن تفرض وجودها و"سلطاتٍ" محلّيّةٍ تعتبر أنّ العيش على الحدود لا ينتظر توقيع مرسومٍ.

 

هل يحسم الملفّ؟

إلى الآن، يكتفي الجيش اللّبنانيّ بضبط جانبه من الحدود تبعًا لإمكاناته المحدودة. ومع كلّ تصعيدٍ، يقصف مصادر النّيران ويدمّر نقاط التّهريب، لكن تبقى الأسئلة قائمةً حول قدرته على بسط سيطرةٍ شاملةٍ إن لم تدعمه السّلطة السّياسيّة بقراراتٍ حاسمةٍ وترتيباتٍ واضحةٍ مع الجانب السّوريّ. تحت هذه الظّروف، يغدو مستقبل العلاقات اللّبنانيّة–السّوريّة مرتبطًا بتوازناتٍ معقّدةٍ، تتداخل فيها اعتباراتٌ دوليّةٌ وإقليميّةٌ. لا أحد يملك إجابةً واضحةً عمّا إذا كانت هذه الإجراءات ستحسم ملفّ المهرّبين والمسلّحين على نحوٍ جذريٍّ، أم ستؤدّي إلى صراعٍ مواربٍ قد يتوسّع لاحقًا. بين هدناتٍ هشّةٍ واشتباكاتٍ خاطفةٍ، شهدنا هذا العام كيف يمكن للحدود أن تتحوّل في يومين إلى ساحة قصفٍ متبادلٍ قبل أن تستدعى "هدنةٌ" على عجلٍ. هدناتٌ لا تثبّتها بياناتٌ مشتركةٌ بقدر ما تثبّتها موازين قوّةٍ تتبدّل على الأرض.

وفي موازاة ذلك، تسير "الورقة الأميركيّة" على خطٍّ دقيقٍ: ثمنها سياسيٌّ داخليٌّ مرتفعٌ، لكنّها تحمل في طيّاتها إمكانًا لتفكيك اشتباكات لبنان الدّائمة، إذا -وهنا الشّرط المضاعف- تلاقت مع إرادةٍ سوريّةٍ جديدةٍ تنظر إلى التّرسيم كرافعة اقتصادٍ لا كقيد سيادةٍ. "التّصفية" الأخيرة ستكون على الطّاولة الاجتماعيّة: هل يرضى أهل الحدود -المتجذّرون في ممرّاتهم-  بأن يصير العبور "ترخيصًا" بعد أن كان "عرفًا"؟ وهل تستطيع الدّولة أن تعرض "بدلًا" اقتصاديًّا عن شبكات الظّلّ؟

الجواب، الآن، غير محسومٍ. ولكنّ المؤكّد أنّ الحدود، الّتي كانت دائمًا "فكرةً" أكثر منها "خطًّا"، بدأت تتحوّل إلى "مؤسّسةٍ" لها أبراجٌ وكاميراتٌ وغرف عمليّاتٍ مشتركةٌ. إنّها بدايةٌ لا أكثر؛ بدايةٌ تشبه كثيرًا "أسلوب" هذا البلد: تمارين يوميّةٌ على الممكن، وتفاوضٌ طويلٌ على الحدّ الفاصل بين الدّولة وعاداتها.