"حلول" العيش في لبنان: الانتحار، الكآبة أو زوارق الموت: الصحة النفسية في حزام البؤس مقلقة وارتفاع معدل الاكتئاب 40%

كتبت روزيت فاضل في النهار:

يتعاطى مجتمعنا اللبناني، ولاسيما في المناطق الطرفية ، مع قضية الانتحار بأحكام مسبقة على الضحية وعائلتها لأن هذا الفعل ما زال، رغم بعض الحالات المعلنة أحياناً، في خانة المحرمات.

اليوم تراجعت الصحة النفسية لغالبية اللبنانيين -باستثناء الطبقة الحاكمة – بسبب الأزمات الخانقة والمتراكمة، والتي أدت الى انسداد الأفق وتلاشي الأمل في المستقبل، ما دفع البعض الى خوض تجربة “زوارق الموت” في طرابلس أو العيش في عزلة مع أفكار إنتحارية أو الإقدام على الانتحار.

وفي ظل صعوبة إيجاد إحصاء رسمي لهذه الظاهرة، أفاد الرئيس السابق لقسم الأمراض العصبية والنفسية في مستشفى أوتيل ديو الدكتور سامي ريشا “النهار” عن تسجيل حالة أو حالتين يومياً لمرضى تطاردهم أفكار إنتحارية في قسم الطوارىء في المستشفى بعدما كانت تقتصر على حالة واحدة أسبوعياً قبل الأزمة.

أما رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى القديس جاورجيوس الدكتور جورج كرم فأكد لـ”النهار” أن قسم الطوارىء في المستشفى يستقبل بعد احتدام الأزمة حالة أو حالتين أسبوعياً لمرضى تراودهم أفكار إنتحارية، فيما كان ذلك يقتصر سابقاً على حالتين في الشهر الواحد.

ما هو الإنتحار؟ أجاب ريشا: “ليس رغبة في الموت بل وسيلة لإيقاف الألم”، مشيراً الى أن “الكآبة واليأس يطاولان الشباب البالغين 21 عاماً بسبب انسداد أفق أي مستقبل في لبنان وعجز الجميع عن توقع أي مدة لانتهاء هذه الأزمة، مع العلم أن الوضع كان مغايراً خلال الحرب لأننا كنا نعيش على أمل طي هذه الصفحة مع ما كان يرافقها في حينه من مقاومة نصرة لقضايا وطنية آمن المواطن بها”.

ولفت الى أن “المجتمع يعاني اليوم من جملة أمراض مثل الكآبة والقلق على أنواعه، والتي “تحركت” عند المواطن جراء الازمات المتراكمة”، مشيراً الى أنه لم يشهد هذا العدد من المرضى خلال توليه رئاسة قسم الأمراض النفسية في مستشفى أوتيل ديو منذ 12 عاماً كما هي الحال اليوم، “وهذا يعود الى واقع الأزمة وهجرة عدد ملحوظ من الأطباء النفسيين الى الخارج، والذي هو في الأصل محدود ولا يتعدى الـ 100 طبيب قبل الأزمة”.

ما المشكلة إذاً؟ يؤكد ريشا أن “على المريض أن يدرك أهمية أن يخضع للعلاج النفسي وجلسات عيادية لتخطي حالته”، داعياً “الجمعيات الأهلية الى بذل جهود مضاعفة لتأمين الأدوية المفقودة للمرضى في ظل غياب الدولة عن القيام بواجباتها”.

أرقام مقلقة

أما الدكتور كرم فقد قارب واقع الكآبة في لبنان من خلال الكشف عن نتائج قياس معدل الاكتئاب في دراسة قيد النشر تفيد بأن “نسبة الكآبة في المجتمع اللبناني إرتفعت بعد تراكم الأزمات الى حدود 40 في المئة وكانت لا تتعدى الـ 25 في المئة سابقا”.

وعرض أيضاً نتائج “صادمة” لدراسة أعدتها جمعية “إدراك” في العام 2021 لقياس نسبة الكآبة والقلق ما بعد الصدمة على عيّنة من 1100 من الفئة المستهدفة المؤلفة من أطباء وممرضين في مستشفيات بيروت ليتبين أن 50 في المئة منهم عانوا من الكآبة والقلق والضغط المادي جراء تراكم الأزمات وتداعيات جائحة كورونا، مع الإشارة الى أن نحو 5 الى 6 في المئة، أي ما بين 70 و80 عاملا في القطاع الطبي والتمريضي راودتهم أفكار إنتحارية، مشيراً الى “أننا تمكنّا من متابعة نصف هذه الحالات، وقد نجحنا بنسبة عالية جداً في معالجتها من هذه العوارض”.

اما رئيسة جمعية “إمبرايس” ميا عطوي فقالت لـ”النهار” إن نسبة المتصلين بالخط الوطني الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار بالتعاون مع الجمعية إزدادت ثلاث مرات عن المعدل بين 2019 و2022، و6 مرات عما كانت عليه في العام 2017″، مشيرة الى “أننا نتلقى يومياً 30 إتصالاً بعد الأزمة أي ما يعادل ألف اتصال في الشهر الواحد مع نسبة تراوح ما بين 30% الى 40 % من المتصلين تراودهم أفكار إنتحارية…”

حزام البؤس

كيف يمكن أن نصف واقع حزام البؤس، أي برج حمود، النبعة وصولاً الى مدخل سن الفيل في العاصمة بيروت، مع الكآبة؟ أجابت المساعدة الاجتماعية في مستوصف طبي إجتماعي في هذه المنطقة ناتالي أنطونيوس “النهار” بان “هذا الحزام شهد تحولات عدة ترافقت مع غياب فاضح لأي تنظيم مدني، إضافة الى أنه أضحى مقصداً لسكن غير اللبنانيين ولاسيما بعد موجة التهجير من سوريا والعراق، ما سهل لهذه البيئات ممارسة طقوسها وثقافتها في أماكن سكنها الجديدة”، لافتة الى أن “السكن العشوائي، الذي جعل المنازل ملاصقة بعضها للبعض، سمح بتخطي الخطوط الحمر في حالات عدة، ولاسيما ان كثافة السكان في حزام البؤس قلصت فرص عمل اللبناني هناك، ما جعل الشباب منهم ينجرفون وراء المخدرات أو يتملكهم شعور بالذل واليأس، وهذا ما أجبرنا على تأسيس وحدة في المستوصف للصحة النفسية لمعالجة حالات تنذر بتردي الأوضاع النفسية عند اللبنانيين”.

ماذا عن قوارب الموت في طرابلس؟ ذكر ريشا لـ”النهار” أنه “نوع من المغامرة دون إكتراث صاحبها لتداعيات ما ينتظره في القارب لأنه أسير وجع كبير يدفعه الى هذا الزورق”…

المتخصصة في علم الإجتماع الدكتورة سناء الحلوة قالت لـ”النهار”: “انتشرت أخبار في مدينة طرابلس أن اللبنانيين، الذين عادوا من زوارق الموت، هم على استعداد لمغامرة جديدة هرباً من الضغوط غير المسبوقة الملقاة على كواهلهم”.

وأضافت: “أسرّت لي صديقة في لحظة حزن، انها تحسد الهاربين من جحيم الحياة هنا”، واستطردت: “نعم الحياة في كل لبنان صعبة، انما الوضع الأمني اكثر سخونة في طرابلس، ولو ان عمري يسمح لي بخوض هذه التجربة لما ترددت”.

واعتبرت أن “لا فرق بين من خاض تجربة قوارب الموت ومن لم يخضها؛ فالحياة لم تعد تحتمل في لبنان عامة وفي طرابلس خاصة”، مشيرة الى “أن المدينة مهددة بتسرب ابنائها من التعليم، وابتعادهم عنه عن سابق تصور وتصميم، خصوصا في ظل ارتفاع مداخيل أصحاب المهن الحرة حتى البسيطة منها ودولرة مداخيلهم في مقابل النخب المتعلمة التي لا زالت تقبض رواتب هزيلة بالليرة اللبنانية ."