حين أصبح السلاح "أيديولوجيا"

منذ تأسيسه، عمل "حزب الله" على تحويل الانتماء الشيعي في لبنان من بُعده الوطني إلى بُعد أيديولوجي مرتبط بمشروع "ولاية الفقيه" الإيراني. من أجل هذه الغاية، خاض "حروب الإخوة" بهدف السيطرة على الطائفة الشيعيّة، وكسر نهائيّة الانتماء للبنان التي كان قد حسمها و"مَأسَسها" الإمام موسى الصدر.

سعى "حزب الله" في بداياته إلى إحكام قبضته على الطائفة الشيعيّة من خلال مدخلين رئيسيين: الدين والسلاح (المقاومة). غير أن محاولاته لفرض "أيديولوجية ولاية الفقيه" واجهت عقبات حالت دون ترسيخ هذا الفكر داخل البيئة الشيعيّة اللبنانية.

فالعلاقة التاريخية والمتجذّرة دينياّ بين شيعة لبنان والمرجعيات الفقهية في النجف – من أمثال السيد محسن الحكيم، السيد أبو القاسم الخوئي، ولاحقاً السيد علي السيستاني – شكّلت سدّاً منيعاً أمام هذا المشروع. إذ إنّ هذه المرجعيات تمثّل مدرسة فقهية ترفض بشكلٍ واضحٍ مبدأ ولاية الفقيه السياسية بنسخته الإيرانية، وتدعو إلى فصل الدين عن الحكم المباشر.

كما أنّ المرجعيات المحلية المستقلة شكّلت بدورها عقبة أساسيّة أمام هذا المشروع، وعلى رأسها المرجع السيد محمد حسين فضل الله، إلى جانب الثقل الديني والمعنوي الكبير الذي مثّله الإمام محمد مهدي شمس الدين، الذي واصل إرث الإمام موسى الصدر في تكريس مبدأ الانتماء الوطني للطائفة الشيعيّة، ودورها الطبيعيّ ضمن الدولة اللبنانية، وليس خارجها.

كل هذه العوامل شكّلت جدار صدّ أمام محاولات الحزب للسيطرة على الطائفة الشيعية عبر البوابة العقائدية.

أمام تعثّر الوسيلة العقائدية، انتقل "حزب الله" إلى التركيز على وسيلة أكثر براغماتية وفعالية تَمثّلت في شعار "المقاومة". وجد هذا الطرح صدىً سريعاً وواسعاً، لا سيّما في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، حيث تبنّى "الحزب" مقولة "السلاح لتحرير الأرض" كمدخل لتكريس شرعيته الشعبية والسياسية داخل الطائفة.

لكن ما بدأ كخطاب تحرري، تحوّل تدريجياً إلى أيديولوجيا قائمة بذاتها، عنوانها "السلاح للدفاع عن السلاح"، لتكشف الأداة "التحريرية" عن غايتها الباطنية كأداة للتسلّط والسيطرة. بهذا المعنى، نجح "حزب الله" في استخدام "أيديولوجية السلاح" كأداة لخلق حالة من الانفصال السياسي والوجداني بين الطائفة والدولة خاصة على المستوى الولائي.

فقد نجحت "أيديولوجية السلاح" حيث فشلت "أيديولوجية ولاية الفقيه" في تحقيق هذا الفصل. وتحوّل السلاح إلى رمز لهوية قائمة بذاتها، وعنوان لولاء مطلق لراعي "أيديولوجية السلاح" في طهران.

من هذا المنطلق، يُمكن فهم تمسّك "حزب الله" الشديد بسلاحه، ليس فقط كخيار عسكري استراتيجي، أو مجرد أداة نفوذ أو ورقة ضغط، بل كجوهر وجوده السياسي والعقائدي، حتى بات هذا السلاح في نظره مقدّساً، كونه يشكّل الوسيلة الأنجع التي اعتمدها لوضع الشيعة في حالة نفور مع الدولة، وخلق حاجزاً نفسياً وسياسياً يحول دون انتمائهم للمصلحة الوطنية. وهو أيضاً صلة الوصل الوحيدة بين البيئة الشيعية ومشروع "ولاية الفقيه"، بما يحمله من أبعاد تتجاوز الجغرافيا اللبنانية.

وبالتالي، فإنّ نزع هذا السلاح لا يُهدّد نفوذ "الحزب" فحسب، بل يفتح الباب أمام تحرّر الطائفة الشيعيّة من قبضة مشروع "ولاية الفقيه"، ويُفكّك الرابط العضوي القائم بين مصير الشيعة بمصالح هذا المشروع، ما يعني عملياً انهيار تام للنفوذ الإيراني في لبنان.

بين استحالة فرض "أيديولوجية ولي الفقيه الدينية" على البيئة الشيعية، والهزيمة العسكرية في الحرب الأخيرة التي أصابت "أيديولوجية السلاح" في مقتلة، أضحى المشروع الإيراني في لبنان على "الحافة الأمامية" من أفوله.