"ذاكرة ليست تمضي" لوداد حلواني: سردية وجع في ظلال 17 ألف مفقود

غاب عدنان، وبقي في الذاكرة شاباً متفلتاً من خطوط العمر، بينما انحنى ظهر وداد تحت أكوام الملفات التي باتت مؤتمنة عليها في قضية الـ17 ألف مفقود ومخطوف. هكذا بدأت الرحلة الطويلة، وعلى متنها نساء في الانتظار: "أم عزيز"، "أم سمير"، نايفة... وأخريات كثيرات، جمعتهن المأساة وفرّقتهن الحكايات.


تكتب وداد حلواني في "ذاكرة ليست تمضي"، الصادر عن دار الساقي، صوت الغياب متدلياً كعريشة عنب، تخضرّ عاماً بعد عام، مكوّرة عناقيدها بعدد السنوات التي مضت في العد والانتظار. كل عنقود يحمل وجعاً مؤجلاً، وكل وجع نسخة منقحة عن وداد الطفلة المتمردة، الحبيبة المغناج، الأم المعوضة لغياب الزوج، والجدة التي باتت حكواتية كل المواسم.
 
ومن غاب على غفلة، في زحمة الحرب وزواريبها، ذات أيلول أسود من عام 1982، يطل مجدداً بين ثنايا السطور، غامزاً ومواعداً على الرغم من أنف الإخفاء القسري. يأخذها عدنان حلواني، الزوج والمناضل الحزبي، إلى ربيع أيامهما معاً، وتأخذه إلى ما فاته: هو الذي غدا دمعة فوق صورة قديمة، منذ دهمت قوة مسلحة منزله ذات يوم، بحجة خضوعه لتحقيق الـ"نصف ساعة". ومن حينه، لا أثر له ولا جواب، سوى ذلك العتب الذي يتردد في الذاكرة: "لماذا لم يحفظ رأسه؟".


غاب عدنان، وبقي في الذاكرة شاباً متفلتاً من خطوط العمر، بينما انحنى ظهر وداد تحت أكوام الملفات التي باتت مؤتمنة عليها في قضية الـ17 ألف مفقود ومخطوف. هكذا بدأت الرحلة الطويلة، وعلى متنها نساء في الانتظار: "أم عزيز"، "أم سمير"، نايفة... وأخريات كثيرات، جمعتهن المأساة وفرّقتهن الحكايات.
في باكورة أعمالها الأدبية، تعترف وداد، التي باتت "سيدة الوقت"، بأنها لم تختر أن تكون كاتبة أو مؤرخة أو باحثة. لم تكتب لتؤرّخ يوميات مسيرة أهالي مفقودي الحرب في زمن الأرشفة الرقمية. كل الحكاية، كما تقول، أنها بوح واشتياق "لحبيبي الذي خطفوه وبقي في عهدة الغياب، مجهول المصير".


وقد أسرّت: "لم أختر أن أكون وجهاً علنياً للحزن، لكن لا أملك سوى أن أكون كذلك".  ويبقى السؤال، الذي تعود إليه مع كل يوم جديد:
هل ما زالت العودة ممكنة؟ وهل ما زلت صامدة في انتظار تلك العودة؟
في سطورها، تعرّي وداد الميدان الهشّ، وتكشف عن مفارقات مؤلمة ومضحكة في آن: ذات يوم، قابلت مسؤولًا رفيع المنصب تطلب مساعدته لكشف حقيقة ما جرى مع زوجها، لكنه فاجأها بطلب غريب: "خدمة شخصية"، أن تسأل عن قريبه الذي فقد في الحرب الأهلية نفسها. وكأن الحكاية لعبة مقايضة بين المفقودين، وكأن الألم يُوزَّع حسب القربى!

تتذكر، بمرارة، يوم حصلت على إذن زيارة لمقابلة زوجها، لكن اتصالًا طارئًا قلب الطاولة، وتمزق إذن الزيارة الذي ظلّ معلقًا كحلم لم يكتمل.
وتعترف أيضًا: "أخفى القاضي غير الشريف معلومة عني، سمعها بأذنه من سماعة الهاتف، وما زلت أبحث عنها منذ سنوات".

تقول المراجع الرسمية والدينية إن الذين خُطفوا بين الرابع عشر والثامن عشر من أيلول 1982، لا تسألوا عنهم: "لقد تمت تصفيتهم". لكن عدنان حلواني، الذي خُطف في الرابع والعشرين من أيلول من العام نفسه، لا أثر له، ولا جواب.

يقولون إن الغائب "عذره معه"، لكن عدنان لا يملك مفاتيح غيابه، كما لا تملك وداد مفاتيح العودة. وما بينهما، أربعون عامًا من الوجع، لم تملك فيها سوى أن تكون الجدة الحكواتية، تروي لأحفادها عن جدهم، وعن الفصول الأربعة في حياتها: الطفلة المتمردة، الحبيبة، الأم التي تعوّض غياب الزوج، ووداد التي حملت ملف 17 ألف مفقود فوق كتفيها، ووداد في نسختها الرابعة، أستاذة الجغرافيا و"أخت الرجال" في إدارة الدولة.

تقول وداد: "في حصيلة الأمر، غدوت زوجة مبتورة، لا أرملة ولا مطلقة".

"ذاكرة ليست تمضي" أكثر من مجرد سيرة ذاتية، بل وثيقة توثّق لذاكرة جماعية، وصرخة ضد ثقافة الصمت التي أحاطت بملف المخفيين قسراً في لبنان. تكتب وداد لغة الصبر العنيد، لغة أم وزوجة وناشطة، تحمل دفء البيت المفقود، وغضب الشارع، وبرودة صالات الانتظار الطويلة أمام مكاتب الدولة المغلقة.

وداد تطالب بالحقيقة، بالعدالة، بالاعتراف. تكتب تاريخاً ليس بمداد المنتصرين فقط، بل بدموع الأمهات، بأصوات الأحفاد الذين لم يعرفوا أجدادهم، بوجع امرأة حملت الذاكرة كجمر في يدها، كي لا تُطفأ نار القضية.