"ربّ ضارة نافعة".. اللبنانيات ينعشن حياة الحرف التقليدية

كتبت ندى عبد الرزاق في "الديار":

ابطأت الازمة الاقتصادية في لبنان ديناميكيات الحياة العملية، لتتفرّع منها العديد من الازمات المتشعّبة التي طالت معظم القطاعات الإنتاجية. والتداعيات الخطيرة لم تسلم منها أي مؤسسة او عمل، وكانت قاسية وخطيرة على أصحابها وعائلاتهم وموظفيهم. فارتفعت نسبة العاطلين عن العمل ،وتجاوزت البطالة الـ 60% من سكان لبنان.

 

بالمقابل، قدّر البنك الدولي ان شخصا من كل 5 فقد وظيفته منذ العام 2019 ، وان 61% من الشركات في لبنان قلّصت موظفيها الثابتين بمعدل 43%.

بالتوازي، فإن هذه الازمات المتلاحقة تتزامن مع دولرة الأسعار، وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية، وانهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية، وارتفاع نسب الفقر والفقر المدقع في سابقة لم يشهدها لبنان منذ الحرب الاهلية. إضافة الى ان عدد طالبي المساعدات الغذائية والإنسانية ارتفع، والمشاكل الاجتماعية تفاقمت، وهو ما دفع بعدد من الشبان لإنهاء حياتهم بالانتحار، معبّرين عن عدم قدرتهم على تحمّل ظروف الحياة المعيشية القاهرة، فانهوا عذابهم الذي يكبر يوما تلو الاخر.

بالموازاة، أظهر تقرير لشبكة التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة لعام 2023، في اليوم العالمي للسعادة، ان لبنان قد احتل  المرتبة ما قبل الأخيرة في الهرم، أي خلف أفغانستان. والتقرير الذي انطلق من عدة عوامل، مثل متوسط الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا المؤشر يعطي تفاصيل عن الحالة الاقتصادية في البلد، بما في ذلك الوضع الاجتماعي للفرد ووجود شخص ما ليعتمد عليه، إضافة الى مؤشر الصحة والعمر المتوقع، وحرية اتخاذ القرارات، وحسن الضيافة والكرم، والتطوع في الاعمال الخيرية.

ربّ ضارة نافعة

الحالة المادية القاسية، روّجت مهناّ واعمالا فرضتها الحاجة في الأوضاع الاستثنائية، واعادت الى الحياة حرفا كادت تزول، كما شرّعت للعديد من الناس فرصا جديدة، وطرقا مبتكرة للعمل بهدف تحقيق الإنتاجية والربح والاعتماد على النفس، بعيدا عن العوز ومد اليد او طلب العون.

وما تجدر الإشارة اليه، ان هذه الاعمال ليست على غرار تجار الشنط في السوق السوداء القائمة على الاحتكارات والمضاربات، واستغلال حاجة ووجع الناس، انما هي حرف إبداعية ومهنية وفنية بامتياز، انتعشت ونجحت وتخطت حدود الوطن نتيجة المثابرة والصبر والايمان، للتغلب على هذه المرحلة الصعبة، وتحقيق عائد يحمي الكرامة الإنسانية، من خلال ايراد مادي إضافي لإعالة عائلاتهم، غير ان هذه المرة ابطال هذه الحقَبَة من النساء.

العودة الى النول «الدولاب»

يعتبر النول من أقدم الأدوات التي استخدمت منذ عصور قديمة، ويعدّ هذا النوع من الحياكة من أعتق المهن في التاريخ، واكتشف في العهد الفينيقي منذ 3 آلاف سنة ما قبل الميلاد. والنول يقسّم الى قسمين: دولاب ونول، واصوله متجذرة في تاريخ لبنان، لا بل متوفر في كل بيت لبناني.

الدولاب، الذي هو محور المهنة والأكثر رواجا، هو كناية عن قطعة خشبية تدار بمسكة للف الخيطان على الطيّارة ،وهو قفص مستدير يلف عليه الخيط، ثم «يُكب» عنها ليلف على مواسير «عقد قصب».

 

بالموازاة، واجهت هذه الحرفة عقبات عسيرة بسبب ارتفاع تكلفتها، وعدم وجود أسواق لتصريف المصنوعات بعد ان توقف بيع الصوف. اما الحرير فقد زاد سعره وانتعش مبيعه حصرا بالفرش دولار، كما روت السيدة نسرين من البقاع الأوسط لـ «الديار» قائلة: « في الحقيقة ان العمل على الدولاب متعب ومكلف لجهة الأدوات، والوضع المعيشي دفعني للعودة اليه، فبدأت بإعادة تصميم العباءات والمناديل، واحيكها على الدولاب، ومعظمها مزركش وذات قيمة، واعرض كل ما انفذه على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف تسويقه الكترونيا».

تابعت: « صحيح ان هذه الحرفة تطلبت مني في البداية جهدا كبيرا، الا انني استطعت ان اتجاوز كل المشاكل»، واشارت «الى ان العامل الذي جعلني امضي قدما، هو انني انفذ الاعمال من المنزل وأبيع القطع التي احيكها بأسعار مقبولة، تتناسب وجميع شرائح المجتمع».

«الكروشيه»

استغلّت السيدة جومانة صالح موهبتها الفريدة وبراعتها في صناعة «الكروشيه»، وتعمل في هذه الحرفة منذ أكثر من 20 عاما، وباتت مصدر عيشها الوحيد، وقد اخبرت «الديار» عن ولعها بهذه المهنة ، فقالت: «الكروشيه نوع من أنواع الحياكة، وهوعبارة عن خيطان بالإبر الصغيرة الخاصة، وشكلها معكوف وتسمى «الصّنارة»، اما الخيوط التي استخدمها فهي متعددة وتتنوع الخامات المستعملة من القطن الى الصوف والحرير وغيرها، وهذا يختلف عن النوعيات الصناعية». ولفتت «الى ان هذه الحياكة ازدهرت وتضاعف الطلب عليها، خاصة للمناسبات مثل الاعراس والولادات واعياد الميلاد حيث، يتم تصميم اشكال للذكرى نظرا لشياكتها وقيمتها وجمال التصميم وفخامة النوعية».

اضافت: «اصنع منها أيضا حقائب لليد، والجوارب والكنزات المختلفة والجاكيتات والفساتين الطويلة والقصيرة والسراويل واكسسوارات الشعر». واشارت الى ان «عملي قائم على الطلب، وأحيانا ابتكر تصاميم واسوقها الكترونيا، الامر الذي يضاعف من الإنتاجية، وهذه المهنة كادت ان تندثر مع رواج موضة السراويل الممزقة والتنانير القصيرة او المفتوحة من الامام وعن الجوانب، ولكن ما لبثت ان عادت لتزدهر وبقوة، وبعض محلات بيع الثياب يشترون مني قطعا مميزة في منطقتي برج حمود والزلقا».

 

وعما إذا كان الدفع يتم بالليرة اللبنانية او الدولار قالت: «انا ابيع حياكتي بالدولار كون الأدوات اشتريها بالفرش، ولكن أحاول قدر المستطاع الربح البسيط لأشجع الزبائن على الطلب لأضمن استمراريتي، ومنهن من يقسطن المبلغ على دفعات، وبعضهن يفضلن الدفع بالدولار، وأحيانا اكسر من السعر الأساسي للقطعة لانني اعمل من المنزل، وليس لدي مبالغ إضافية لأدفعها بدلا لاشتراكات الكهرباء والمحل والموتور».

التطريز

برعت السيدة اسما بفن التطريز ،على الرغم من افتقارها للدعم والأدوات الأساسية لهذه الحرفة، وتروي لـ «الديار»: «بعد ان فقد زوجي وظيفته، صممت على العمل وعدم اليأس او الاستسلام، وأنا اراقب سقوطنا مئة مرة في اليوم. لذا بدأت اطرز على القماش باستخدام ابرة الخياطة والخيط، مع المزج بين الغرز لرسم رسوم مطرزة ، واستعمل اقمشة وخيوطا متنوعة وأبر بأنواع واحجام مختلفة، الى جانب مواد أخرى مثل الأشرطة المعدنية والبراق والخرز والريش على الثياب، ويمكن استخدامه في الأغراض الشخصية كالمناشف». لافتة «الى ان هذا النوع من الحرف يحتاج الى الصبر والفن والتركيز والدقة في التنفيذ».

اضافت: «في البداية لم أكن احقق الربح الكبير، ولكن مع الوقت أصبح لدي زبائن، وهؤلاء هم من وسّعوا بكار عملي ليشمل معارفهم واقاربهم واولادهم، أو من هم على مشارف مشروع زواج قريب». وختمت: «لا شيء مستحيل، الثقة والصبر والاقدام أساس نجاح أي عمل».

في المحصّلة، نساء كثيرات سعيدات، ليس لان وضعهن المادي تحسّن، فالغلاء لا يمكن اللحاق به، تقول كل من نسرين وجومانة واسما، و»لكن البهجة هي عودة الحياة الى مهننا بعد ان كادت تختفي. والاعتماد على أنفسنا غاية لا يدركها الا عزيز النفس، فحاولوا وجرّبوا ولا تقنطوا نساء كنتن ام رجالا. وهناك مهن أخرى ازدهرت هذه الفترة منها حياكة الصوف، والخياطة والكوي اليدوي».