رحلة البحث عن الدواء: دولار وحقيبة و.. سماسرة

كتبت حنان حمدان في الراي الكويتية:

يعيش المواطن اللبناني راهناً أزمة دواء مزدوجة، واحدة بسبب ارتفاع أسعاره، والثانية بسبب عدم فاعلية البديل، هذا في حال وجوده.

وصارت أزمة غلاء الدواء، قديمة جديدة، إذ بدأت أسعار الدواء بالارتفاع تدريجاً، الى أن وصلت الى ما هي عليه اليوم، نتيجة رفع الدعم عن السلع الأساسية، ومنها الدواء وربطها بدولار السوق السوداء، الذي حطّم رقم 100 ألف ليرة ومضى نحو ارتفاعاتٍ مُخيفة.

أما الأزمة الأكثر إيلاماً والتي يتخوّف منها الناس، أطباء ومرضى، فتكمن في البحث بلا جدوى عن «دواء بديل» وعدم فاعليته أحياناً، أو في آثاره الجانبية.

دواء.. يلفظ أنفاسه

ربما لم يعد خافياً أن أسعار الدواء في الصيدليات باتت خارج قدرة كثر من اللبنانيين، بعدما تمّ رفْع الدعم عنه كلياً، باستثناء بعض أدوية الأمراض المزمنة والتي تكون مفقودة في غالبية الأوقات.

ويُسَعَّر الدواء راهناً على أساس «الدولار الأسود» فيما تتدنى أكثر قيمة رواتب اللبنانيين وقدرتهم الشرائية.

وبدت «صرخةُ» نقيب الصيادلة الدكتور جو سلوم أشدّ تعبيراً عن الواقع المأسوي، هو الذي كان كشفَ عشية إضرابٍ للصيدليات تم التراجع عنه في ربع الساعة الأخير بعد التوصل لاتفاق مع نقابة مستوردي الأدوية يضمن تسليمها بشكل منتظم ضمن آلية محدّدة، أن الإرتفاع المضطرد والسريع للدولار أدى إلى توقف شبه كامل عن تسليم الأدوية والحليب إلى الصيدليات، وتالياً فقدانها تدريجاً «ناهيك عن إنعكاساته السلبية على الواقع الصحي والإفلاسات التي تنتظر كل قطاعات الدواء وفي مقدّمتها الصيدليات، وتالياً الإقفال».

وتوجّه إلى السياسيين في الداخل والمجتمع الدولي لإنقاذ المريض والقطاع الصحي، قائلاً: «من هنا أتوجه كنقيب صيادلة لبنان، المؤتمَن على القطاع الدوائي وصحة المواطن، الى السياسيين في الداخل والمجتمع الدولي لإنقاذ المريض والقطاع الصحي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، فالإنقاذ يبدأ بانتخاب رئيس للبلاد، لتأمين الحد الأدنى من الاستقرار المالي والاقتصادي، وإعادة انتظام الحياة الدستورية والتشريعية لتذهب الأمور في اتجاه التعافي ووضع الخطط التنفيذية، ولا سيما الصحية، وإلا الانهيار الحتمي والتوقف القسري لكل القطاع الدوائي في غضون أيام».

أسعار.. نار

تقول الحاجة دلال عواركة (70 عاماً) من سكان قرى بنت جبيل لـ «الراي»: «أسعار أدويتي باتت مرتفعة جداً، وأنا أتناول 6 أدوية أساسية يومياً، للضغط والسكري والغدة والقلب ونشفان الرأس غير الأدوية الأخرى. مثلاً، قبل أسبوع دفعتُ ثمن علبة الضغط الواحدة والتي تكفيني لمدة شهر بمليون و200 ألف ليرة لبنانية، وهي دواء بديل كون الدواء الأساسي الذي إعتدتُ تناوله مقطوع في السوق».

وتضيف: «أحياناً الدواء البديل يكون أغلى ثمناً، إلا في حال تمكنتُ من الحصول عليه من سورية، مثل علاج السكري، إذ دفعتُ ثمن علبتين منه 300 ألف ليرة فقط وذلك قبل أيام قليلة، والحمدلله أن فعاليته جيدة مع أن دواء الضغط السوري لم يناسب جسمي».

ومثل عواركة كثُر في لبنان، يعانون إرتفاع الأسعار، ويلجأون إلى شراء أدوية بديلة، وهنا ليس المقصود البحث عن الجينريك كبديل للبراند الأصلي، وإنما أي بديل متوافر في السوق، في الصيدليات وخارجها.

رحلة البحث الدائم

وتروي ليال بداوي (36 سنة) من سكان ضواحي صور (جنوب لبنان) وتعاني فشلاً كلوياً لـ «الراي» كيف أن رحلة البحث عن أدوية بديلة لا تنتهي بتأمين بديلٍ مَرّة من هنا ومَرّة من هناك، فهي في رحلة بحث دائمة ومستمرة منذ أكثر من عام.

وتقول: «كمريضة كلى، أعاني باستمرار فقدان أدوية كثيرة، ربما لن يكون آخِرها أحد الأدوية الذي عشتُ قلق البحث عنه قبل أقلّ من شهرين، إذ احتجتُ لدواء يعالج الإصابة بالبكتيريا، كانت تؤمّنه لنا (كمرضى كلى) سابقاً وزارة الصحة كونه لا يباع في الصيدليات، ولكنها للأسف توقّفت منذ مدة عن تأمينه، وطبيبي المُعالِج طلب مني تأمينه من الخارج».

وتضيف: «تواصلتُ مع شقيقتي التي تعيش في ألمانيا، وتمكنتْ بدورها من تأمين بديله بقيمة 70 يورو، بسبب ارتفاع ثمن الأساسي. وقد أخذتُ موافقة دكتوري، ولكن حتى اللحظة لم أتمكن من الحصول عليه».

وتشرح بداوي كيف أن الرحلة الواحدة لا تنتهي بتأمين الدواء وإنما بالبحث أيضاً عن حامِله، إذ انها تواجه مشكلتين أساسيتين، الأولى أن الصيدليات خارج لبنان لا تأخذ بالوصفة الطبية اللبنانية، والثانية وفيها «العذاب الأكبر» وتتمثل في أن تجد مَن يحمل الدواء معه الى لبنان في الوقت الذي تحتاجه. إذ تقول «بالصدفة، تمكّن إبن شقيقتي من التعرّف الى سيّدة لبنانية كانت ستزور أهلها في لبنان في وقت قريب، فطلب إليها أن تحمل معها علبة دواء، كون أولوية الجميع باتت حمْل الدواء لعائلاتهم وأقربائهم قبل الغرباء».

وإلى حين وصول الدواء، تمكّنت بداوي من تأمين علبة دواء من أحد مرضى السرطان (يتناول نفس العلاج للبكتيريا) في منطقة صور، على أن ترسل له العلبة التي ستصلها من ألمانيا.

دواء.. الحقائب

وشاع أخيراً في لبنان، حمْل المغتربين معهم حقائب دواء في زياراتهم لوطنهم الأمّ، عبر المطار، وهذه الأدوية تأتي من بلدان مختلفة، أوروبية وأفريقية وأميركية، وتتضمّن في غالبيتها أدوية الأمراض المزمنة والتي تُخصص للأهل والأقرباء والفئة المحتاجة من الناس، ويتناولها البعض من دون وصفة طبية ومن دون معرفة إن كانت تناسب أجسامهم ولا حتى إن كانت تتطابق مع أدويتهم.

وتقول غنوة (40 سنة) لـ «الراي»: «إعتاد إخوتي إرسال حقيبة مليئة بالأدوية من النمسا بين فترة وأخرى، فيها أدوية سكري وضغط ودم وكثير من الفيتامينات، تحملها جارتي وهي أخصائية تغذية (متخصصة بمرضى الكلى) في إحدى مستشفيات الجنوب، ويتمّ توزيعها على المرضى في هذا المستشفى بحسب حاجة كل منهم».

من جهته، يقول بلال معلم (37 سنة) لـ «الراي»: «كلما تمكّنتُ من توفير ثمن الدواء والحصول على بديلٍ أقل سعراً، يكون ذلك أفضل. والبديل حتى لو أنه ليس بنفس الفاعلية إلا أنه يبقى أفضل من لا شيء».

لا رقابة و.. سماسرة

ومنذ بداية أزمة الدواء وفقدان عدد كبير منها في السوق، لجأتْ بعض الشركات والأفراد الى تأمين الدواء من تركيا للمرضى ولكن بأسعار مرتفعة جداً بحجة تكاليف الشحن، ولا سيما للفئة القادرة من اللبنانيين.

وتقول بداوي «منذ مدة تمتنع المستشفى عن تأمين دواء البوتاسيوم لنا (أيّ مرضى الكلى)، فاضطررتُ أن أوصي عليه من تركيا، عبر شخص طلب 200 دولار ثمن علبتين مع الشحن لأكتشف بعد ذلك أن ثمن العلبة الواحدة في تركيا يبلغ 20 دولاراً فقط».

وهكذا، تدخل الأدوية الى لبنان عبر أفراد ومغتربين وأحزاب وجماعات ومنظمات دولية وحتى تجّار ومستفيدين، من دون أن تخضع لأدنى معايير الفحوص او الإختبار، فلا الدولة قادرة على ضبط دخول الدواء ولا وزارة الصحة يمكنها الدخول الى بيوت الناس وتفقُّد الدواء، أما المرضى فمتعلّقون بقَشة هواء.

وتقول سارة هبر (24 عاماً) التي تعاني اضطرابات في التنفس «في أول الأزمة لم نكن نتقبّل الفكرة، ولا سيما أن هذا الأمر لم يكن يلقى تشجيعاً من الأطباء المُعالِجين، أما راهناً، فيقولون أيّ شيء أفضل من لا شيء. كنا نخاف من تناول أيّ بديل، ولكن حالياً فقد إعتدنا».

وتقول نائب رئيس جمعية المستهلك ندى نعمة لـ «الراي»: «بات الدواء حاجةً، بسبب فقدانه أو إرتفاع سعره كثيراً. وكجمعية لسنا ضدّ تأمين البديل وبكل الوسائل، ففي النهاية ليكُن الله في عون الناس، وخصوصاً أنه عادةً ما يتم إدخال الدواء للإستعمال الشخصي وليس للتجارة، أكان بكميات أو قليلة».

وتسأل: «ليه شو فيه شي عم يتراقب بلبنان؟»، وتضيف: «من الأساس لا يوجد مختبر لفحص الدواء، والمستورِد (التاجر) كان يستورد الدواء الى لبنان ويؤمّن أوراقاً تثبت فحصه في الخارج».

وتؤكد «بات من الضروري الإبتعاد عن نظرية أن الدواء البراند أفضل من الجينيريك. ففي أوروبا مثلاً، لا يتمّ وصْف إلا الجينيريك. هناك أدوية في السوق صناعة سورية أفضل بكثير من أخرى براند ولا أحد يعلم إن كانت منتهية الصلاحية أم لا، بسبب غياب الرقابة».

وتختم: «أصل المشكلة هي حاجة الناس للدواء، ولذلك لجأوا لمثل هذه الوسائل. أما النوعية فلا أحد يراقبها منذ زمن، والأخطر في رأيي مجموعات الأونلاين التي تبيع الدواء من دول مختلفة مثل سورية، تركيا، مصر والأردن، ولا يتمّ مراقبتها».

أثار سلبية

تشكو بداوي من سوء إبر الحديد (صناعة سورية) التي اضطُرت الى أخذها، بعد فقدان وارتفاع سعر تلك التي اعتادت على تناولها، فيما ناسَبَها البديل اللبناني ووجدتْ أن سعره مقبول.

وفي هذا السياق، يؤكد النائب السابق الدكتور اسماعيل سكرية لـ «الراي» أن «هناك بعض المرضى يشكون من الآثار السلبية للدواء البديل، ولا سيما الذي يكون مجهول المكوّن الدوائي، كالأدوية الهندية على سبيل المثال».

ويقول: «هناك عدة عوامل، مثل حالة الشخص الصحية وطبيعة المرض، ومدى التشوه في تكوين الدواء، تحدد مدى تأثر المرضى بالبديل»، فمثلاً تختلف حالة مَن يعاني مرض السكري والقلب عن حالة مَن يعاني الرشح أو الانفلونزا".

ويضيف «ممنوع أن يكون هناك مختبر مركزي لفحص الدواء، وهذا قرار اتُّخذ منذ زمن في لبنان حمايةً لمصالح مافيا الدواء من التجار والمستوردين».

ورغم الأزمة التي تعيشها غالبية اللبنانيين وصعوبة شرائهم الدواء، لم يتغّير أيّ شيء، بحسب سكرية «فحتى عند شراء البديل من الهند وسورية وغيرها من الدول، يتمّ بيع اللبنانيين بأسعار مرتفعة، وتالياً اللبناني»عم ياكلها«من كل النواحي».

وقد لجأ كثير من اللبنانيين إلى السوق السوداء، وتمّ تشكيل مافيا مصغّرة تعمل على خط الدواء من تركيا الى لبنان، وفق سكرية.

وعن التحول الى العلاجات البديلة مثل التداوي بالأعشاب أو عبر نظام غذائي محدّد، يؤكد سكرية أنه «لا يمكن أبداً تسويق أن هناك بديلاً عن الدواء، أو أه يمكن الإستغناء عنه. هناك عوامل تساعد كتناول أنواع طعام معيّنة وممارسة الرياضة في حال كان معدّل الكولستيرول بمستوى مقبول ولكن لا يمكن التعميم على كل الحالات المَرَضية».