رسالة شيعية تاريخيّة تتحدّى "الثنائي": نحن مع لبنان

تُشبه اللحظات الراهنة إلى حدّ بعيد، مفاصل التحوّلات الكبرى في تاريخ الشيعة وعلاقتهم بلبنان. فـ "حزب الله" الغالب داخل طائفته لأسباب عدّة، يضعها اليوم أمام مفترق طرقٍ. إما خيار الدولة مع كل أشكالها ومفاهيمها ومعاييرها الدستورية المُلزمة، وإمّا تعميق الطلاق والمسافات مع اللبنانيين على اختلافهم وتنوّعهم، وبالتالي البقاء في موقع المواجهة والارتياب.

لذا، تبدو الحاجة ملحّة اليوم، لمراجعة ذاتية جريئة، تُعيد التوازن بين الانتماء الوطني والخصوصية الطائفية. فالمكاسب التي تحققت بالسلاح والمال والأيديولوجيا العابرة للحدود، تحوّلت إلى عبءٍ ثقيلٍ، وهزيمة مصحوبة بنكرانٍ خطير. الهزيمة لا تُحطّم الهويات والجماعات، إنما عدم الإقرار بها، هو السّجن الحقيقي لها. اليابان وألمانيا مثالان حيّان معاكسان: اعترفا بالسقوط فصعدا. حوّلا خسارتهما المدوية في الحرب العالمية الثانية إلى قفزات نهضوية عظيمة تُدَرّس.

إذًا، لا مناص من العودة إلى التاريخ. لا لمحاكمة الماضي بأدوات الحاضر، إنما لفهم سياقه لدى الطائفة الشيعية العريقة. إذ اتسمت علاقتها بالكيان اللبناني افتراقات واتجاهات داخلية مختلفة.

مع سقوط السلطنة العثمانية، شهدت المنطقة تحوّلات جيوسياسية ضخمة. من المفارقات الغريبة، أنه في تلك المرحلة، كان جبل عامل محكومًا من "الثنائي الشيعي" صادق حمزة وأدهم خنجر، اللذين شكلا تنظيمات مسلّحة ارتبطت سياسيًّا وعسكريًّا وماليًّا بالأمير السوري محمود الفاعور. كانا من أشدّ "الممانعين والمقاومين" لقيام "لبنان الكبير". اعتبرا أن المطالبة بدولة لبنانية مستقلّة، ستكون امتدادًا للنفوذ الماروني، وكيان مصطنع يخدم مصالح الانتداب الفرنسي (الغرب). كما كانت الأكثرية الشيعية، تشعر بانتماء صادقٍ وأقوى إلى حكومة الملك فيصل، ابن الشريف حسين بن عليّ، الذي قاد "الثورة العربية الكبرى" ضد الدولة العثمانية، وتصديرها (أي الثورة) إلى جميع "الأقطار العربية" وتوحيدها تحت حكومة واحدة"، بما يُشبه اليوم "وحدة الساحات".

هذا التيار الواسع (لو كان في انتخابات لاكتسح معظم المقاعد الشيعية)، جسّد مواقفه بمؤتمر وادي الحجير الشهير، بتاريخ 24 أيار عام 1920. تذكر مراجع شيعية، أنّ الزعيم السياسي حينها، كامل بك الأسعد، أُجبِرَ على الدعوة إلى عقد المؤتمر، بعد أن وصلته رسالة تهديد من قيادة الثورة السورية عبر "خنجر – أدهم"، تطالبه برفض الانضمام إلى دولة لبنان الكبير، وإبقاء جبل عامل تحت لواء فيصل (الوصاية حينها كانت سورية). في هذا الإطار، تشير المراجع إلى أنّ الإمام السيّد موسى الصدر ثابر على إجهاض مقررات "وادي الحجير" ونتائجه السلبية على الطائفة، وعمل جاهدًا من أجل تعزيز الانتماء الوطني لدى الشيعة. فهو صاحب عبارة "إن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه"، التي وردت لاحقًا في وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف).

أمام تلك الحقبة، كم يُشبه اليوم الأمس، مع الأخذ بالاعتبار الظروف الداخلية والإقليمية والدولية. ألم يكن هناك صوتٌ شيعيّ معارض يريد لبنان دولة له؟ ألم تُسجَّل آنذاك مواقف شيعية خارجة عن الإجماع المفروض والتيار المُتسيّد الجارف؟

في أرشيف الكنسية المارونية التي قادت معركة تثبيت الكيان اللبناني التاريخي، وقيام دولة سيّدة حرّة مستقلّة عن محاور المنطقة، برزت وثيقة تاريخية في غاية الأهمية، تتحدّث عن عريضة رفعها أهالي الجنوب إلى مؤتمر الصلح في باريس. الموقّعون هم: "أهالي صور، أهالي جويّا، ديركيفا، مزرعة مشرف، دير عامص، البياض، دير نطار، برج قلاويه، كونين، بيت ياحون، طيرزنبا، جوار النخل، دير قانون، تبنين، الجمجمية، عيتا (الشعب)، رشاف، اليهودية*، شمع، حنويه، قانا، يارون، الحبيبة، طيرحرفا، باسولية"، إضافة إلى القرى المسيحية: علما الشعب، عين إبل، القوزح، دبل.

(بموجب القانون الصادر في 15 كانون الأول عام 1961، تم استبدال اسم قرية "اليهودية " الوارد في عداد القرى التي يتألف منها قضاء بنت جبيل بموجب الجدول الملحق بالمرسوم الاشتراعي رقم 11 الصادر بتاريخ 29 كانون الاول سنة 1954 باسم"السلطانية").

ماذا ورد في رسالة الأهالي إلى مؤتمر الصلح؟ أشارت إلى "... أننا نطالب بالانضمام إلى لبنان فرارًا من خطر الصهيونية. فلا نريد أبدًا أن نلتحق بفلسطين... وفلسطين كصور أرض زراعية، فلا يمكن أن تكون سوقًا لنا ولا نذكر أننا أخذنا منها أو أعطيناها في زمنٍ من الأزمان. ثمّ إن أخلاقها وعوائدها تختلف كثيرًا عن أخلاقنا وعوائدنا. فلا يكون بيننا امتزاج وسلام. إن أبى مجلس الأربعة أو مؤتمر السلام، إلّا إلحاقنا بفلسطين فيكون قد ارتكب جناية عُظمى يتبعها ولا شكّ جنايات...".

هذه الوثيقة التاريخية، تضع المغامرين والمتحكّمين بالطائفة الشيعية أمام دروس وتساؤلاتٍ مصيريّة. ماذا لو ربح فريق "وادي الحجير" الذي مثّل الأكثرية الشيعية، وأُلحِقَ جبل عامل بسوريا أو بفلسطين، أو بأي مشروع توسّعي، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات دينية وسياسية وثقافية سلبية على شيعة لبنان؟ ألم يكن متوقّعًا أن يكونوا تحت نير الأنظمة الديكتاتورية التي حكمت سوريا تباعًا، أو مواطنين في دولة إسرائيل أسوة بـ"عرب 48".

أليس خيار التيار الشيعي المعارض الأقلوي، بالانضمام إلى "لبنان الكبير" كان الخيار الآمن والصحيح، أقله من الناحية السياسية والاجتماعية/ المصلحة الوجودية للشيعة، حيث أن لبنان هو الدولة الوحيدة في هذه المنطقة التي اعترفت بحقوق الشيعة وخصوصيتهم واستقلال سلطتهم وتنظيمهم الديني عن دار الفتوى؟ أما آن لأبناء الطائفة الشيعية الراسخة والأصيلة، أن يقرأوا رسالة أجدادهم وينزعوا عنهم عباءة التبعية الإيرانية المدمّرة لهم قبل سواهم؟ فالتاريخ لا ينتقم، لكنه لا ينسى من تجاهل دروسه.