المصدر: المدن
الكاتب: عزة الحاج حسن
الأربعاء 29 تشرين الأول 2025 01:40:12
أثارت فورة أسعار الذهب عالمياً شهية السلطات السياسية والنقدية في لبنان للتصرف في احتياطي الذهب في إطار معالجة أزمة الودائع أو بالأحرى الأزمة المصرفية الشاملة.
ورغم تأكيدات المسؤولين الماليين والنقديين في لبنان على استبعاد خيار بيع الذهب، فإنّ ما يُناقش في الكواليس لا يقلّ خطورة عن هذا السيناريو، إذ تُطرح أفكار ومشاريع متعددة تصبّ جميعها في خانة المقامرة بآخر حصون الأمان المالي في البلد، من دون الأخذ في الاعتبار حجم المخاطر المالية والسيادية التي تحيط بأي محاولة للتصرّف بهذا الأصل الاستراتيجي.
ارتفاع قيمة الذهب
بالرغم من صغر حجم لبنان واقتصاده غير أنه يتربّع بين كبرى الدول على عرش أكبر احتياطات الذهب في العالم، بالنسبة إلى ناتجه المحلي. يمتلك لبنان 286.6 طناً وفق مجلس الذهب العالمي، وتقدّر قيمة ذهبه اليوم بقرابة 36.86 مليار دولار بعدما تجاوز مستوى 38 مليار دولار قبل تراجع سعر الذهب مؤخراً. وبذلك يحتل لبنان المرتبة الثانية عربياً، ويصنّف بين الدول العشرين الأولى عالمياً من حيث حجم الذهب.
مع اندلاع الأزمة المالية في لبنان في تشرين الأول 2019 كان حجم احتياطات الذهب يساوي قرابة 13 مليار دولار ما يعني أن قيمته ارتفعت بأكثر من 23 مليار دولار خلال السنوات القليلة الماضية. هذه المليارات تحديداً هي ما أثار شهية المصارف وكل من يدور في فلكها لهندسة أساليب وطرق تؤدي جميعها إلى التصرّف بالذهب.
يُخزّن ثلث الذهب اللبناني في الولايات المتحدة الأميركية والثلثان الباقيان في خزائن مصرف لبنان في بيروت على شكل 13 ألف سبيكة و600 ألف عملة.
المجاهرة باقتراح التصرف بالذهب
في سنوات ما قبل الأزمة لم يكن ليجرؤ أحد على الحديث عن المسّ باحتياطات الذهب لاسيما أن القانون يمنع البيع أو التصرّف به منذ العام 1986. أما منذ العام 2019 حين غرقت المصارف بأزمتها وأغرقت معها مليارات المودعين بدأت اقتراحات حلول تُطرح في كواليس اللقاءات والنقاشات وتدور جميعها حول احتياطات الذهب. إلى أن بدأت فورة الذهب العالمي وتصاعدت أسعار الأونصة بشكل جنوني فبات حينها الحديث عن التصرّف بالذهب اللبناني معلناً، باعتبار أن المليارات التي سجّلها الذهب في الأشهر الأخيرة تُعد كأرباح حقّقها مصرف لبنان ويمكن الاستفادة منها لإطفاء ديون القطاع المصرفي، وسط تجاهل تام لمعارضة متطلبات صندوق النقد الدولي اللجوء إلى الموارد العامة خصوصاً الذهب.
ولأن مسألة بيع جزء من الذهب وفق طروحات البعض ستثير أزمة في البلد، حسم المعنيون الأمر واستبعدوا طرح البيع كلّياً في مقابل وضع طروحات عديدة على طاولة النقاش تتراوح بين استثمار جزء من احتياطي الذهب أو رهنه أو رقمنته وهو طرح جديد بدأ الترويج له في الأسابيع القليلة الماضية.
التسويق لبيع الذهب
يتم التداول بأفكار عديدة في إطار استثمار مخزون الذهب لرد الودائع، ويقول أحد المصرفيين في حديث إلى "المدن" بما أن الذهب سجل قفزة كبيرة في أسعاره منذ العام 2019، فلماذا لا يستفيد البلد من فارق السعر كتعويض للمودعين مثلاً. ويبرّر المصرفي ذلك باعتبار أنّ قضية المودعين هي الأكثر حساسية وتفاعلاً في البلد. ويرى المصرفي أن الحل يكمن في رهن جزء من احتياطي الذهب، بهدف ضخ السيولة في النظام المصرفي.
أما مصرف لبنان فيبحث ويسوّق اليوم لطرح جديد يقوم على رقمنة الذهب Digitization، وبحسب مصدر متابع فإن حاكم مصرف لبنان كريم سعيد طرح فكرة رقمنة الذهب بشكل واضح في إحدى جلسات النقاش في اجتماعات الخريف في واشنطن مؤخراً. ويستهدف بالرقمنة أحد الثلثين الموجود في لبنان، بمعنى أن يقوم المركزي بإيداع ثلث الذهب اللبناني (مادياً) لدى شركة معينة ويتم تحويله إلى ذهب رقمي مقابل مردود مالي معين. بمعنى أصح يتم استبدال ثلث الذهب مادياً بذهب غير ملموس مع ربط مصيره بمصير شركة ما.
وبحسب دراسة أعدها المحامي باسكال ضاهر تتناول فكرة رقمنة الذهب في مصرف لبنان فإنها تقوم على إنشاء نظام رموز رقمية مدعومة بالذهب (Gold Tokenization System)، يهدف إلى استثمار احتياطي الذهب الوطني، من دون المساس بالمخزون الفعلي أو تعريضه لأي مخاطر قانونية أو مالية، بحسب الدراسة.
ويقوم هذا النظام وفق الدراسة على إصدار رموز رقمية تمثل أجزاء محددة من الذهب يحتفظ بها مصرف لبنان، بحيث تعكس قيمة كل رمز السعر العالمي للذهب، ويمكن تداولها بين المستثمرين والمصارف داخل سوق منظم. على أن يُستخدم المردود من بيع هذه الرموز في تعزيز السيولة وتسديد جزء من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف والمودعين.
مقترحات كثيرة يتداولها سياسيون ومصرفيون جهاراً تقوم على رهن أو استثمار أو بيع أو رقمنة الذهب، وتصب جميعها في خانة المخاطرة بآخر الحصون الاقتصادية في لبنان.
المخاطر والتجارب السيئة
وبالرغم مما تحمله نظرية رقمنة الذهب من إمكانات مالية وابتكارية، إلا أنها تنطوي على مخاطر حقيقية قد تهدّد احتياطي الذهب اللبناني. ولا يحتاج الأمر إلى الكثير من التحليل لنستنتج حجم المخاطر التي تنطوي على مسألة رقمنة الذهب. فالبنية التكنولوجية في لبنان بالغة الهشاشة وهو ما يعزّز المخاطر من احتمال اختراق أو تلاعب بمحفظة الذهب الإفتراضية. وليس سرّاً أن البنية التحتية التكنولوجية في لبنان عير مؤهلة لإدارة منظومة مالية رقمية بهذا المستوى من الحساسية.
كما أن ارتفاع سعر الذهب راهناً قد لا يدوم، وقد تؤدي تقلبات أسعار الذهب العالمية إلى مخاطر كبيرة ترتبط بقيمة رموز الذهب التي سيحصل عليها لبنان. ناهيك بمخاطر الضغوط الخارجية نتيجة دخول أطراف دولية في عملية التداول وربط مصير ذهب لبنان بمصير شركة معرّضة لكل أشكال المخاطر، ما يجعل الرقمنة شكلاً مقنّعاً لبيع الذهب كلّياً. والأخطر من ذلك غياب الشفافية والرقابة المستقلة. ففي حال إساءة استخدام النظام الرقمي أو إخفاء المخاطر، فإنه من الصعب التدقيق والمحاسبة لعدم توافر معايير محاسبية وتقنية متقدمة في لبنان.
وبصرف النظر عن مدى نضج فكرة رقمنة ثلث الذهب اللبناني، وبالنظر إلى تاريخ لبنان الحافل بالنزاعات والتخلف عن الوفاء بالإلتزامات والفساد، فلا يؤمل أن توضع تجربة لبنان، فيما لو خاضها فعلاً، في مصاف التجارب الناجحة لبيع أو استثمار الذهب كحالة سويسرا التي باعت جزءاً من احتياطاتها الذهبية واستبدلتها بسلة عملات وأدوات استثمارية ونجحت في المحافظة على استقرار اقتصادها. إنما يرجّح اصطفاف لبنان في تجربة استثمار ذهبه إلى جانب فنزويلا وسريلانكا إذ رهنت الأولى ذهبها واقترضت الدولارات ولم تتمكّن من استرداده فباعته إلى الدائنين، وباعت الثانية ذهبها لتغطية العجز ولم يمنع ذلك انهيارها مالياً وخسارتها احتياطاتها.
بالمحصلة لم تدخل أي دولة في العالم تجربة تسييل ذهبها أو رهنه لتمويل عجز إلا وانتهت بعجز مضاعف وخسارة آخر حصونها الاقتصادية.