روحوا بلطوا البحر

كتب مصطفى فحص في جنوبية: ما لم تدركه منظومة السلطة الحاكمة في لبنان بكل أجهزتها القضائية والتشريعية والأمنية أنها لو تمكنت من صناعة المستحيل، لن تخرج معافاة من أمراضها العضال، أو بمعنى آخر لو جربت أقصى وأشرس وأعنف وأخطر وأقذر ما تملك من إمكانيات من أجل ردع المواطنين وإعادة فرض هيبتها عليهم، فهي لن تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. في الزمن اللبناني الجديد الذي تشكل في محطتين أساسيتين ما بين 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 و4 آب (أغسطس) 2021 ، يسير الزمن باتجاه واحد إما العدالة وإما العدالة، حيث تواجه منظومة السلطة صعوبة في إخماد أصوات “التشرينيين” ولو أنها خفتت، “ثورة تشرين” التي نجحت في تحقيق خطوات عديدة في مسيرة التغيير الطويلة والمعقدة والشائكة وباتت ممكنة مهما بلغت الإخفاقات، كما أن السلطة وبكل ما سخر لديها من أدوات قضائية وأمنية لم تنجح في كسر إرادة أهالي ضحايا انفجار المرفأ بهدف طمس الحقيقة ومنع تحقيق العدالة، حيث بات تبليط البحر أهون عليها من إسكات “التشرينيين” وطمس جريمة المرفأ.
ففي المواجهة المفتوحة ما بين المنظومة وزبانيتها من جهة وأغلب اللبنانيين من جهة أخرى، تحتشد الطوائف في داخلها وتحتشد ضد بعضها، تُمسك الأحزاب باتباعها وتتماسك ضد بعضها، نتيجة قلق وارتباك من عصيان في داخلها أو عصيان جديد عليها، من موجة تشرينية ثانية داخل بيوتها تحطم جدارا وهميا بنته بتحريض وترهيب وترغيب لتصمّ أذان اتباعها عن هتاف المواطنين في شوارع وساحات أغلب المدن اللبنانية من أجل الحرية والعدالة والمحاسبة. بين صعود وهبوط، ومدّ وجزر في المواجهة بين المنظومة الحاكمة والانتفاضة، اعتقدت السلطة أنها استعادة زمام المبادرة وبأن من خرجوا إلى الشارع ذات تشرين إما هاجروا أو أحبطوا، ومن تجرأ وخرج عن طاعتها في الانتخابات البرلمانية علانية أو سرا قد ندم وفشل، والوقت مناسب لمعاقبتهم، معتقدة أنها لم تزل تحتفظ بسطوتها داخل مؤسسات الدولة أو خارجها، لكنها صُدمت من رد الفعل فتراجعت. وهذا لا يعني أنها ستتوقف عن أفعالها الرديئة، بل على الأغلب ستغير خططها، أو ستستخدم، في المواجهة المقبلة مع التشرينيين وأهالي ضحايا انفجار المرفأ أدوات أخرى ليس بالضرورة من داخل مؤسسات الدولة، خصوصا بعدما لمس صناع قرارها أن ليس كل القضاء فاسدا أو تابعا – حتى لو اعترف وزير الداخلية السابق بأن 95% منهم كذلك، وأن ليست كافة الأجهزة الأمنية مهمتها حماية السلطة، وأنها أداة فقط لقمع الناس والتضييق عليهم بالرغم من الشوائب والأخطاء الفادحة في عمل بعضها. منذ 19 تشرين الأول، تروج السلطة لفكرة أن “ثورة تشرين” هدمت الدولة بمؤسساتها، وأنها مشروع فتنة سيؤدي إلى فوضى أهلية، لذلك يجب إخمادها والتعامل معها كمؤامرة خارجية تنفذها أياد لبنانية، لكن الحقيقية أن المواطن أكان مع “تشرين” أو ضدها، حزبيا أو مستقلا، متعصبا أو معتدلا، متدينا أو علمانيا، إلا المتعصب مذهبيا أو حزبيا، لا يمكن أن يسكت عن القضاء أو الأمن إذا استجاب لضغوط السلطة ومن يقف خلفها في ملاحقة المواطنين المطالبين بحقوقهم، وغض الطرف عن الفاسدين والمرتشين والمتآمرين، فهذا ليس عدلا وليس أمنًا، واستمراره سيؤدي إلى ما تخطط له المنظومة أي انتقال المواجهة بينها وبين المواطنين إلى مواجهة ما بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
 
ولأن الإحباط ليس قدرا، فشلت المنظومة في المواجهة الأخيرة ما بين أهالي ضحايا انفجار المرفأ وبين مؤسسات الدولة القضائية والأمنية بالتحكم بقدر اللبنانيين، ويمكن توجيه الشكر لتعنتها بأنها أعادت تنبيه اللبنانيين إلى حجم خطرها، فما حدث ليل 13 و14 من هذا الشهر جاء عكس مخططاتها، فاضطرت إلى التراجع خوفا من اتساع التمرد وعودة الناس إلى الشارع، وهي باتت تعلم أن أي خطوة ناقصة جديدة منها لن تكون مضمونة النتائج، فما يجب أن تفهمه من المواجهة الأخيرة أن ضحايا المرفأ ليسوا “فدا…. أحد”، لذلك يصح القول الشعبي “روحوا بلطوا البحر”.