سلامة يتلاعب بميزانيّات مصرف لبنان مجدّدًا

في شهر تمّوز المقبل، ستنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، ليتفرّغ بعدها الرجل إلى معالجة ملفّاته الجنائيّة وتهم الاختلاس والتزوير وتبييض الأموال، الموجهة إليه في المحاكم المحليّة والأجنبيّة. في هذه اللحظات بالذات، وقبيل أسابيع من هذا الموعد، يبدو أن الحاكم يبذل كل بوسعه للتلاعب بميزانيّة المصرف المركزي، ودس آخر ما يمكن دسّه من طلاسم وأعمال تزوير محاسبيّة، لإخفاء أو تبرير ارتكاباته السابقة. والتزوير الجديد، ليس مجرّد عمليّة عبثيّة. هي مؤامرة سيكون هدفها مرّة أخرى تحميل المزيد من الأعباء على اللبنانيين، مقابل تحييد النخبة المصرفيّة عن خسائر الانهيار.

في خلاصة الأمر، الرجل متهم أساسًا بتزوير ميزانيّات المصرف المركزي من قبل القضاء اللبناني، وباعتماد معايير محاسبيّة "غير تقليديّة" و"غير مألوفة" من قبل شركات التدقيق الأجنبيّة. وعلى هذا الأساس، لن يخسر الحاكم شيئًا إذا تورّط بالمزيد من هذه العمليّات في الشوط الأخير من حياته المهنيّة، بعدما بات اليوم مطلوبًا دوليًا كبيرًا، كحال كبار تجّار المخدّرات والمهرّبين. هو الغريق، فما خوفه من البَلل. وفي النتيجة، هذا تمامًا ما سيحصده اللبنانيون حين تقرّر سلطتهم السياسيّة الإبقاء على شخص من هذا الصنف، في موقع حسّاس كحاكميّة المصرف المركزي، حتّى بعد صدور مذكرات التوقيف الدوليّة بحقّه.

تزوير جديد: اختراع صندوق في الميزانيّات
في الميزانيّة النصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان في بداية شهر حزيران، يظهر على نحو مفاجئ بند جديد ضمن الموجودات، إسمه "صندوق استقرار سعر الصرف". الصندوق، وبوصفه موجودات، يفترض أنّ يمثّل أصلًا يمتلكه مصرف لبنان، كحال الأبنية والأموال والاستثمارات الموجودة بتصرّف المصرف المركزي. وهو ما يفرض السؤال عن مصدر هذه الأصول الجديدة، في ميزانيّة لم نرَ منها سوى الخسائر والنكبات منذ بداية الانهيار.

حسنًا، المسألة ليست بهذه البساطة. موجودات الصندوق الجديد هذا، جرى نقلها من حساب الموجودات الأخرى، في الميزانيّة نفسها. وحساب الموجودات الأخرى، كما بات معلومًا اليوم، ليست موجودات بالفعل، بل هي خسائر، وخسائر فادحة أيضًا. الموجودات الأخرى، هي موجودات وهميّة، غير موجودة فعلًا. هي حصيلة الأموال التي تم تبديدها من حسابات المصرف المركزي. ولإخفاء الخسارة، تم تعبئة الميزانيّة بالموجودات الوهميّة، تحت مسمّى "الموجودات الأخرى".

على هذا النحو، قام سلامة اليوم بنقل موجودات وهميّة من حساب وهمي، إلى حساب وهمي آخر. وقيمة الموجودات الوهميّة، أو بالأحرى الخسائر غير المعترف بها، التي تم نقلها من "الموجودات الأخرى" إلى "صندوق استقرار سعر الصرف"، توازي حدود 77 ترليون ليرة لبنانيّة. وهذا المبلغ، يوازي نحو خمسة مليارات دولار أميركي، حسب سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّة.

ماذا يريد سلامة؟
التلاعب والتذاكي واضح إذاً. والسؤال الآن، كما هي العادة، هو حول هدف رياض سلامة من هذا التلاعب. فهل المطلوب أن يتم تحويل قيمة موجودات الصندوق إلى إلتزامات على الدولة اللبنانيّة، وبوصفها حقوق أو موجودات تستحق لحساب المصرف المركزي؟

وهل سيتسلّح سلامة بالبيانات الوزاريّة، التي كانت تتحدّث عن استقرار سعر الصرف، ليبرّر الخسائر (أو الموجودات الوهميّة)، كدين جديد على الدولة، بحجّة تبديدها للدفاع عن سعر الصرف الرسمي؟ وهل سيخفي سلامة بهذا الشكل عمليّات الاختلاس والاحتيال وتهريب الأموال، التي استفاد منها النافذون (كإبنه ندي مثلًا)، تحت ستار الدفاع عن سعر الصرف الثابت والرسمي؟

وسوء النيّة هنا، تبرّره حقيقة أنّ الرجل أضاف 16.5 مليار دولار أميركي من الديون على الدولة اللبنانيّة، في شهر شباط الماضي، بشخطة قلم ومن دون أي سند قانوني أو محاسبي. وهذا التزوير والتحايل، تزامن مع عودة مجلس النوّاب لمناقشة أرقام الخطّة الماليّة، وتقديرات الخسائر المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان. وبالنسبة لسلامة، لا يوجد هدف أهم من تقليص الخسائر المعترف بها كفجوة في ميزانيّات القطاع المالي، مقابل مراكمة هذه الخسائر كديون على الدولة، أي على المال العام وجيوب دافعي الضرائب.

كما هي العادة، لن يتحرّك المدّعي العام المالي ولا النيابة التمييزيّة، ولا وزير الماليّة حتمًا، إزاء هذا التزوير الفاقع والمفضوح في أرقام مصرف لبنان. فمن شرب بحر شركة فوري واختلاساتها، قد لا يغص بساقية صندوق "استقرار سعر الصرف"، وما إلى ذلك من "ضربات" سلامة في آخر أيّامه. لا بل قد يكون أحد أهداف حماية سلامة، وتركه في منصبه حتّى نهاية ولايته، هو إتاحة المجال لهذا النوع من الألاعيب، التي تعيد هندسة ميزانيّة المصرف المركزي، قبل أن يرحل سلامة وترحل أسراره معه.