"سيفنا والقلم" منبتٌ للرجال

في الذكرى 20 لاغتيال جبران التويني، و 18 لاغتيال فرانسوا الحاج، يعود للواجهة أحد أعمق معاني النشيد الوطني: "سيفنا والقلم"، فالجريمة التي طاولت جبران استهدفت "القلم"، والجريمة التي خطفت فرانسوا استهدفت "السيف"، محاولة اغتيال متكاملة لركنَي السيادة: الكلمة الحرّة والقوة الشرعية.

فمن مدرسة أبيه غسان التي تختزن تاريخ الدولة ومواقفها، انطلق جبران نحو مدرسته الخاصة التي حمّلته الهموم الوطنية الكبرى، واجه نظام الأسد في عز جبروته في لبنان، وواجه أدواته الداخلية، بالقلم، ليمتزج بموته الحبر بالدم، ويصبح دم كلّ إعلامي وصحافي وناشط امتدادًا لدم جبران التويني.

خلال مسيرته، حاور جبران معظم الرؤساء والزعماء والنوّاب والوزراء، ونقل صوتهم بشجاعة، ومن أبرز محطاته حواره مع الأمين العام الراحل لـ "حزب اللّه" حسن نصراللّه، حين سأله عن وجود سلاح ثقيل في الضاحية الجنوبية، فنفى نصراللّه ذلك قائلًا: "إذا عندك سلاح عطينا"، ليردّ التويني: "لدينا هذا القلم"، عبارة أثبتت لاحقًا أن القلم أقوى من السلاح، وأن الفكر الحرّ يتجاوز بقوّته العنف.

وبعد عشرين عامًا على رحيله، يشهد اللبنانيون أن نظام الأسد في سوريا ومن يدور في فلكه سقط، فيما بقي إرث جبران الفكري والسياسي حيًّا. فقد أثبت التاريخ أن قلم وحبر بيروت باقٍ، بينما سلاح وصواريخ إيران إلى زوال، وأن ثورة الأرز مستمرّة، والحرس الثوري الإيراني إلى الزوال. وسقط، بعد عقدين، كلّ من اعتقد أن السلاح يخيف أصحاب الرأي والفكر الحرّ.

أمّا السيف، فسقط باستهداف قائد معركة "نهر البارد"، صباح 12 كانون الأول 2007، دوّى انفجار مروّع في بعبدا، استهدف مدير العمليات في الجيش اللبناني العميد فرانسوا الحاج، أثناء انتقاله من منزله في بعبدا - مفرق بطشاي إلى وزارة الدفاع في اليرزة. اغتيال الحاج في قلب منطقة تجمع سلطة الدولة ورأس هرمها، رسالة مزدوجة للجيش والدولة.

فالذين خططوا للعملية كانوا يدركون أن مستقبله في القيادة محتوم، وأن من واجه "الإرهابيين" في مخيم "نهر البارد" كان سيواجه أي سلاح غير شرعي داخل لبنان. وبعد 18 عامًا على اغتياله، يبقى حضوره أقوى من الغياب، فهذا هو قدر الرجال الشرفاء الأوفياء: التضحية. حاول مخططو اغتيال الحاج إسقاط المؤسسة العسكرية، معتقدين أن اغتيال جنرال سيهز ثقة اللبنانيين بجيشهم، لكن السنوات أثبتت أن الجيش أقوى من المؤامرات، وأنه لم ولن يكون جيشًا نظاميًا بالمعنى العربي الضيّق للمفهوم.

وفي موازاة القلم والسيف، كان جبران أوّل من قال عام 2005 إن سلاح "الحزب" انتهى كـ "مقاومة"، وطالب بتسليم ما تبقى منه للدولة. وقد وثق بالجيش وقدراته وطالب ببسط سيطرته على كامل الأراضي اللبنانية، إيمانًا بلبنان موحّد، سيد، حرّ ومستقل. وبعد عقدين على رحيله، يبدو أن ما ناضل من أجله تحقق، إذ أظهرت القرارات الأخيرة أن حصر السلاح أصبح واقعًا سياسيًا، وأن المؤسسات الرسمية باتت صاحبة السيطرة العسكرية داخل البلاد.

وهكذا، يجتمع اللبنانيون اليوم على أن جبران التويني وفرانسوا الحاج، شهيدي "السيف والقلم"، تركا إرثًا لا يُمحى، فالقلم الذي اغتيل يعود ليكتب، والسيف الذي استُهدف يعود ليدافع، وبينما يزول كلّ سلاح خارج شرعية الدولة، يبقى القلم الذي دافع عن حرية سيادة واستقلال لبنان أقوى من الاغتيال.