عصر "جاري التحميل"...اللبناني يطارد شبكة خيالية

يناضل اللبناني يومياً لتحديث تطبيق أو إرسال صورة أو إتمام مكالمة دون انقطاع، وسط مشهد خدماتي يختصر مأساة وطن بأكمله. ففي وقتٍ تتسابق فيه دول العالم إلى الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة، يُترك المواطن اللبناني عالقاً بين شبكة متآكلة، وبنية تحتية تترنّح تحت وطأة الفساد والإهمال. يخوض اللبناني معركة عبثية مع خدمة الـ 4G، عنوانها الانتظار الطويل، مضمونها الإحباط المتكرّر، وخاتمتها المعتادة: «الرجاء المحاولة لاحقاً».

إنترنت يحتضر

في معظم دول العالم، باتت سرعة الإنترنت معياراً لقياس التقدّم. أما في لبنان، فتحوّلت سرعة الإنترنت إلى اختبار يومي لصبر المواطنين وأعصابهم. دوران مستمر لرمز التحميل، رسائل تتأخر في الوصول، مكالمات تتقطع عند كل خطوة، وفيديوات تتوقف أكثر مما تعمل.

كل ذلك يعود إلى بنية تحتية، تتآكل تحت وطأة غياب الصيانة وضعف الاستثمارات وسوء الإدارة. ورغم فداحة الواقع، لا نسمع سوى وعود متكررة وممجوجة عن مشاريع تحسين مرتقبة أو صيانة قريبة لا تأتي أبداً. منذ أكثر من عقدين، وُعد اللبنانيون بشبكة ألياف بصرية (Fiber Optic) قادرة على إحداث ثورة في الاتصالات. غير أن هذه الوعود ظلّت حبراً على ورق، لتحصر اللبنانيين في دوامة أبطأ مما عرفته البشرية مع بدايات الإنترنت في التسعينيات.

الستريمينغ: ترفٌ بعيد المنال

في لبنان، مشاهدة مقطع فيديو قصير على YouTube قد تتطلب أعصاباً حديدية. متابعة فيلم على Netflix قد تتحوّل إلى مشروع طويل الأمد، أشبه برحلة عبور صحراء دون ماء.

طلاب الجامعات يواجهون معاناة يومية في تحميل محاضراتهم عبر الإنترنت، وبعضهم يلجأ إلى المقاهي أو حتى أرصفة الشوارع بحثاً عن شبكة أكثر استقراراً. الأطباء والمبرمجون وأصحاب الأعمال، جميعهم يقفون في طوابير الانتظار الرقمي، ليتمكنوا من رفع ملفاتهم أو إجراء اتصالات عملهم الضرورية.

وفيما الخدمات السحابية والبث المباشر في العالم تُعتبر أسساً يومية للعمل والترفيه والتعليم، لا تزال هذه الخدمات في لبنان مجرد أحلام مؤجلة، تحطمها سرعة الإنترنت البطيئة، والتغطية الضعيفة، وانقطاع الاتصال المتكرر.

جريمة اقتصادية موصوفة

ليست الأزمة مجرد تراجع في الأداء أو بطء في الخدمات، بل سرقة موصوفة بحق المشتركين. يدفع اللبناني فواتير باهظة لقاء خدمات رديئة، إذ تُعد أسعار الإنترنت في لبنان من الأعلى في العالم نسبة إلى متوسط الدخل.

الـ «ميغابايت» الواحد يُباع وكأنه سلعة فاخرة، والاشتراك الشهري قد يصل إلى أرقام خيالية مقارنة بجودة الخدمة المتاحة. والأسوأ أن هذه الفواتير تفرض نفسها بلا منافسة حقيقية، في ظل غياب كامل لأي رقابة فاعلة أو محاسبة للمسؤولين.

هكذا تحوّلت خدمات الإنترنت إلى مصدر استنزاف مالي مستمر، يدفع اللبناني ثمنه من جيبه، مقابل شبكة تتداعى عند أول اختبار بسيط للسرعة أو الثبات.

دولة بلا عقل رقمي

لا تقتصر المأساة على سوء البنية التحتية، بل تتجلى في غياب الرؤية الرقمية الشاملة. في حين تراهن الدول على الاستثمار في التكنولوجيا كرافعة للنمو الاقتصادي والتعليم والتنمية البشرية، تتعاطى الدولة اللبنانية مع الإنترنت كرفاهية لا كحق أساسي. في كل مناسبة رسمية، تُطلق الوعود الرنانة: دخول عصر الـ 5G، توسيع شبكات الألياف الضوئية، تحسين سرعات الاتصال. لكن الحقيقة المُرّة تظهر في كل عاصفة مطرية تسقط معها أبراج الاتصالات كأوراق الخريف.

لا خطط تنموية متكاملة، لا استراتيجيات واقعية، لا جدية في مواكبة العصر الرقمي. كل ما يقدّم للمواطن اللبناني، شعارات فارغة، تُغلف الفشل المتواصل في واحدة من أهم ركائز العصر الحديث.

ورغم كل شيء، لا يستسلم اللبناني. يطارد إشارة الإنترنت كما يطارد الهواء، يتسلّق النوافذ، يبحث عن الزوايا التي تمنحه «خطّي إشارة» كأنها كنز. يعيد تشغيل «المودم» (جهاز يستخدم في شبكات الاتصال لتوصيل الأجهزة المختلفة مثل الحواسيب والهواتف بشبكة الإنترنت عبر خدمة الإنترنت السلكية مثل ADSL» أو اللاسلكية مثل «الواي فاي»)، عشرات المرات يومياً، ويبتكر وسائل جديدة لتحسين الاتصال، مستنداً فقط إلى قوة إيمانه بأن «الغد قد يكون أفضل»، حتى وإن كان هذا الغد مفقوداً منذ زمن. في الختام، إن لم تكن الدولة قادرة على تأمين أبسط حقوق المواطنين في الإنترنت السريع والموثوق، فلا يحق لها أن تتحدث عن التحول الرقمي، وأن تتباهى بشعارات التقدم، خصوصاً أنها غير قادرة حتى على إيصال رسالة إلكترونية واحدة دون عرقلة أو انقطاع.

اللبناني لا يطلب معجزة، بل حقه البديهي في شبكة تحترم إنسانيته وتواكب طموحاته في بلدٍ يتوق إلى الحياة الكريمة ولو عبر شاشة هاتف.