المصدر: لوريان لوجور
الكاتب: جيل خوري
الثلاثاء 21 تشرين الأول 2025 12:16:50
منذ الأزل، أعطانا هذا البلد كل الأسباب الممكنة لقطع الحبل السرّي الذي يربطنا به ونسيانه. ومع ذلك، مثل آبائنا وأجدادنا من قبل، لا نكفّ عن إيجاد الأعذار لنواصل حبّه، رغم كل شيء.
يتدفّق سيل من الدموع من عينيها. جسدها بأكمله يرتجف من شدّة البكاء. في الليلة السابقة، صادفت "ب." حبيبها السابق في الشارع. خمسة أشهر مرّت من دون أن تراه أو تسمع عنه شيئاً. في أيار، كانت قد اتخذت القرار أخيراً بإنهاء العلاقة، بعد عشر محاولات فاشلة. قالت لنا يومها: «هذه المرة انتهى الأمر. هذه المرة حقيقية. لا عودة إلى الوراء، ولا انتكاسات بعد الآن».
ومع مرور الأسابيع، بدأ قلبها يلتئم ببطء. لم تعد "ب." تستيقظ وهي تحمل العالم فوق صدرها، ولا يغمر رأسها الضباب. لم تعد تبكي بلا سبب، في المترو، أو في السوبرماركت، أو أثناء اجتماع عمل، أو خلسة في دورات المياه.
استعادت شهيتها، وتعلّمت مجدداً تلك البديهة البسيطة التي كانت مستحيلة عليها: أن تعيش. بل كانت أحياناً تبتسم بلا سبب. نجحت في لقاء رجال آخرين، وصارت تفكر فيه أقل فأقل. مرّت أيام لم يتمكن خلالها من تلويث فكرها.
حتى البارحة، كانت تظن نفسها شُفيت، متحرّرة، منقَذة. كانت مقتنعة بأنها تجاوزت تلك العلاقة السامة التي التهمتها. لكنّ مصادفة واحدة، بضع ثوانٍ لاستنشاق رائحته أو سماع صوته، كانت كافية لتبخّر خمسة أشهر من التعافي. بضعة كلمات منه فقط، وتنهار من جديد في الفخّ ذاته.
الليلة، تبكي "ب." في أحد مقاهي باريس وتقول: «لن أتعافى أبداً. لن أتوقف عن حبّه. انتهى الأمر. أعرف تماماً كم هو سام، كم هو ليس لي، ومع ذلك، كل مرة أعود إليه».
وأنا أسمعها تتحدث عن هذا الرجل الذي يسكنها كلعنة، وعن سمّ هذا التعلّق، وعن عجزها أمامه، ينتابني إحساس غريب بأنني أرى أمامي صورة علاقتي بلبنان. كم مرة شبّه لبنانيون علاقتهم ببلدهم بعلاقة حبّ فاشلة لا نستطيع الانفصال عنها، مهما أوجعتنا، ومهما دمّرتنا.
بلد لا نكفّ عن مسامحته
من جيل إلى جيل، لم يتوقف لبنان عن منحنا كل الأسباب التي تدفعنا إلى نسيانه. ومع ذلك، بالأمس كما اليوم، نواصل نحن وأهلنا قبلاً إيجاد كل الأعذار الممكنة لنظلّ متعلّقين به.
كم مرة ضربنا هذا البلد، وكم مرة غفرنا له ونحن نعرف أننا سنتلقى الضربات نفسها من جديد؟ كم مرة خيّب آمالنا، وكم مرة صدّقناه مجدداً؟ كم مرة ظننا أننا تخلّصنا من إدماننا عليه، وكم مرة عدنا إليه بقوة أكبر؟ كم مرة أقسمنا أن نطوي الصفحة نهائياً، وكم مرة انهار القسم أمام أول بريق؟ كم مرة قلنا لأنفسنا إننا سنكبح حنيننا ونمضي قدماً، وكم مرة استدرنا إلى الوراء؟
كم مرة لعنّا هذا البلد الصغير المكسور، فقط لنحبه أكثر بعد دقيقتين؟ كم فرصة منحناه؟ كم "فرصة أخيرة" أعطيناه؟ كم مرة قلنا إننا انتهينا منه، ثم عدنا نهرع إلى حضنه؟ كم مرة رددنا: «لبنان؟ أبداً بعد الآن»، وكم مرة تحوّل هذا "الأبداً" إلى "دائماً" في لحظة ضعف واحدة؟
لبنان فينا... رغم كل شيء
نحن اللبنانيين لا نحتاج سوى القليل كي ننسى، كي نغفر، كي نبدأ من جديد. يكفي تفصيل صغير، مشهد بسيط، ابتسامة، نغمة موسيقى، لتعود العدوى من جديد. فلبنان، مثل الحبيب السام، يعرف تماماً كيف يستدرجنا ويوقظ فينا الرغبة في الإيمان مجدداً، في التبرير، في الغفران.
لقد سرق لبنان منا كل شيء: مدّخراتنا، غاباتنا، لون البحر، وجوهنا، أطفالنا، أمهاتنا، فرصة رؤية أجدادنا يشيخون، قدرتنا على الحلم والتطلع إلى الغد، صحتنا وحقّنا في حياة بلا خوف من الموت.
لبنان خذلنا آلاف المرات. طردنا آلاف المرات. أثبت لنا أنه قضية خاسرة آلاف المرات. ومع ذلك، تكفي لمسة جمال عابرة منه، مشهد أو رائحة، لتمحو كل شيء، لتغطي على الخراب. إنه أمر غير منطقي، لكنه أقوى منا.
فنحن نغفر وننسى...
من أجل طعم بندورة "بلدية"، أو أول رشفة "ألمازا" باردة، أو قهوة الصباح التي تعلوها رغوة،
من أجل وردة الجاردينيا، أو عطر البيت،
من أجل لون الغروب الوردي الذي يلفّ بيروت،
من أجل صوت الأم على الهاتف، أو لقمة كنافة كالسحابة،
من أجل القمر المعلق على جبين الجبال،
من أجل شمس تلامس حجارة بعلبك فجراً،
من أجل لحظة سلام نعرف كم هي هشة،
من أجل الذين بقوا رغم كل شيء،
ومن أجل ذلك الشعور حين نرى بيروت من نافذة الطائرة عند الهبوط…
من أجل كل ذلك، ولأسباب سيئة أو بلا سبب أبداً، نغفر، ننسى، ونعود.
ونعلم أننا لن ننجو.
فلبنان، نحمله في جلدنا، في دمنا، إلى الأبد.