عين عنوب ومعها لبنان يودّعان "شاعر المنبرين" ... شهيّب: كان صوت الجبل الذي واكب مسيرة وليد جنبلاط الوطنيّة

شيّع لبنان، ظهر اليوم الأحد، الشاعر الكبير طليع نجيب حمدان “أبو شادي”، الملقَّب بـ”شاعر المنبرين”، في مسقط رأسه بلدة عين عنوب – قضاء عاليه، بعد مسيرة حافلة بالعطاء في عالم الزجل اللبناني امتدت لأكثر من خمسين عامًا.

وقد أُقيمت مراسم التشييع في حضورٍ حاشد من الفاعليات الروحية التي تقدّمها شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المنى والسياسية والفنية والشعبية، التي توافدت لوداع قامةٍ من قامات الأدب الشعبي الأصيل.

وتخلّلت المراسم كلماتٌ عدّة أشادت بمسيرة الراحل ودوره في صون وتطوير الشعر الزجلي. وكانت كلمة للرئيس وليد جنبلاط ألقاها عضو “اللقاء الديمقراطي” النائب أكرم شهيّب الذي مثّله ومثّل رئيس مجلس النواب نبيه بري.

شهيب

وفي كلمته قال شهيّب: "من هنا، من عين عنوب إلى العالمية، رسم طليع حمدان ملامح الخلود، فهو الشاعر الملتزم، والوطني الرقيق والحساس والبليغ. وبرحيله يتمّ الزجل، وقد فقدت الكلمة أحد أنبل أصواتها."

وأضاف: "كان شاعر الحب والغزل والثورة، كان المقاوم وصوت الجبل الحر الذي واكب المسيرة الوطنية بقيادة وليد جنبلاط. بكلماته شدَّ أزر المناضلين وأشعل الحماسة في القلوب، فكانت قصيدته رفيقة البندقية وصدى الإرادة في زمن التحدي".

وتابع قائلاً: “غنّى حمدان للوطن، كلّ الوطن، غنّى للجنوب، وصوّر بصدقٍ معاناة الناس، مؤمنًا بأن الكلمة المخلصة لا تقلّ أثرًا عن الفعل الشجاع.”

وختم شهيّب كلمته بالقول: "نفتقد بغياب طليع صديقًا مخلصًا ووطنيًا صادقًا وشاعرًا لا يُجارى. كان بالكلمات يرسم لوحاتٍ من إحساسٍ عميق. رحمه الله، وروحه الطيبة ستبقى حيّةً في الذاكرة والوجدان. للأهل، ولعين عنوب، وللجبل والوطن والشعراء، خالص العزاء والرحمة لروحه".

شيخ العقل

ثم القى شيخ العقل أبي المنى، كلمة فقال: "حضورُنا معكم اليوم في وداع الشاعر الأمير طليع حمدان له مغزى ومعنى، فمَن نودِّع اليوم بأسى ورضى وتسليم ليس حالةً عاديةً عابرة، بل هو كنزٌ نادرٌ من كنوز هذا الجبل الأشمّ، حملَ معه عنفوانَ الجبل وجمالَه إلى كلِّ منطقةٍ في لبنان، وعبّر بلسانه الشعريِّ عمّا يختزنه الوطنُ من جمالٍ ومحبةٍ وسلام، فكان الرسّامَ المبدِعَ والفنّانَ الرائعَ والشاعرَ المُجلّيَ والبطلَ المُدافعَ بشعرِه حين احتاجت الأرضُ والعرضُ والكرامةُ للدفاع". 

 اضاف: "استحقّ طليع حمدان أن يكون شاعرَ الجبل والوطن ودنيا الاغتراب، شاعرَ الفخر والمجد وشاعرَ الرقّة والعاطفة بشعره المُتدفِّقِ كالشلّالِ الرقيقِ كما النسيم، والحاملِ في أبياتِه فلسفةَ حياةٍ وتوقاً دائماً للسفر والإبداع، بصُوَرٍ قلّ أن تتهيَّأَ لشاعرٍ آخرَ، أكانت فخراً أو تصويراً ووصفاً، أو مدحاً لطيفاً وتغزُّلاً أو تحدّياً عنيفاً أو رثاءً من القلب والوجدان. ولأنّ قيمةَ الشاعر عندنا تكمنُ في ما يعكسُه من قِيَم مجتمعِه العريقة، قيَمِ التوحيد المُشبَعة بروح الإسلام والمسيحية، روح الرحمة والمحبة، روح الأخوّة والحكمة، ولأنّ شاعرَنا الطليعيَّ كان حريصاً على هذه الأصالة، معبِّراً عن كنهِ مجتمعِه المعروفيّ، وعن عمق تعلُّقِه بلبنانَ الرسالة، فقد صاغَ مشاعرَه وقناعاتِه الوطنية أناشيدَ وقصائدَ تردّدت أصداؤُها من تلّةٍ إلى تلّة، ومن وادٍ إلى وادٍ، وحيّا العقلاءَ وتغنّى ببطولات الشباب والأبطال، فهزّت قصائدُهَ الركاب، قبل أن تَهُزَّ مشاعرَ الألباب، وكان دفقُ عطائِه الشعريِّ المُتألّقِ مصدرَ عزّةِ الناس ومهنةَ صونِ المجدِ وحفظِ التراث، قبل أن يكونَ مهنةَ كسب المال والرزقِ. شقّ به طريقَ الكرامةِ، كما شقّها أخوانُه، أبناءُ الجبلِ، بدمائهم وعَرَقِهم، لتكونَ أبداً طريقَ السلامِ والعروبةِ الحقيقيّةِ، وطريقَ الوحدةِ الوطنية، وعبّد به دربَ المصالحة في الجبل، وزيّن به قرى الصمود في الجنوبِ بأروعِ القصائدِ وألمع الأبيات".

وتابع: "في أوائل السبعينيات لمعَ طليع بصوتِه وحضوره وشعره، ونشأنا فتياناً على صدى معلّقاته المعلَّقة في قلعة بيت مري، ولا أنسى ما قلتُه له وفيه:  نشأتُ على طلوعك يـا طليـعُ وكنتُ  فتىً  فأغراني الطُّلوعُ كأنّـك  يا طليعُ  ربيبُ  قومٍ  كما  لبنانُ،   فارسُهم  وديعُ ولكنْ  إنْ  يُدغدغْه التحدي فطعمُ  حُسامِه   مُرٌّ   مُريعُ  طليع حمدان تفاخرتَ بجبلِك فتفاخر الجبلُ بك، وتفاخرنا يوماً فقلنا: 

يا بو شادي يا صورة عن جبالك 

يا صوت المرجلة بشمخة تلالك

جبلنا شاف حالو  فيك

 لمّا بجبلنا عالمنابر شفت حالك…  

واستطرد شيخ العقل: "لأننا نكرِّمُ الفكرَ والشعرَ والثقافة، ولأنّ الشاعرَ الملتزمَ رسالةَ قومه ووطنه يستحقُّ التكريم، وهو مَن كان يزرعُ الأملَ في زمن اليأسِ، ويبلسمُ الجراحَ أيَّامَ المحن، لذا نحن هنا نسمعُ وندمعُ مع العائلة والقادة والشعراء والمحبِّين الحاضرين والغائبين على غياب طليع حمدان وفَقده، مُصلِّين على روحِه وراجين لنفسِه الراحةَ والغفران ولأهلِه وعارفيه وللشعراءِ من بعدِه السلامةَ والصبر والسلوان، راضين مسلِّمين لمشيئته تعالى، ومردّدين قوله تعالى: " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون". 

 وختم: "برحيل طليع حمدان تنطوي صفحةٌ وتُفتَحُ صفحةٌ، وبعائلته وورَثةِ شعرِه ورسالتِه وبكم تستمرُّ الحياةُ ولا تتوقَّفُ... عظّم الله أجورَكم...لروحه الرحمة ولكم طيبَ البقاء".  

الغريب

كما ألقى الوزير السابق صالح الغريب كلمةً باسم رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، فقال: "اليوم لا نودّع شاعراً عاديّاً بل نودّع صوت جبل ما انحنى يوماً فكان صوت الجبل وصدى الأرض ووجدان الناس. طليع حمدان لم يكن شاعراً يلقي القصيدة بل كان القصيدة نفسها تمشي على الأرض تهتف للعز وتنتصر للكلمة الحرّة وتخلّد القيم التي لا تموت. الزجل مع طليع لم يكن لهوًا ولا فخرًا أجوف، بل كان صلاةً بلحن لبناني أصيل يخرج من القلب ليعود إلى القلوب، كما كان حارسًا لذاكرة الناس، مرآةً لوجعهم وفرحهم، ورفيقًا لهم، وللأرض، وللعنفوان. هذا الجمع اليوم يعبّر عن حزنٍ واحد، يجمعنا على رحيل من كانت كلماته تشبهنا جميعاً".

أضاف: "اليوم يوحّدنا الفقد، كما كانت كلماته توحّدنا وتوحّد كل لبنان لأنه كتبنا بصدق، كتب أفراحنا وأحزاننا واختلافاتنا واتفاقنا. طليع حمدان ابن الطائفة الموحِّدة، وابن لبنان كله، كان صوت الوحدة لا الفرقة، وصوت كل الوطن لا العزلة. سلام عليك يا طليع، يا طليعة الكلمة والموقف، وسلام على منبرك الذي سيبقى عامراً بأصوات من أحببتهم وأحبوك من شعّار بلادي. ونيابة عن الأمير طلال أرسلان وعن كل من يرى في الكلمة شرفاً وفي الوطنية قضيّة وفي العروبة انتماءً، نجدّد العهد أن نبقى أوفياء لهذه الأرض ولهذا التراث وللرجال الرجال الذين يشبهون الجبال في صدقهم وثباتهم وشموخهم. الرحمة لطليع السلام لكم ولعائلاتكم، والبقاء لله!"

كلمة العائلة

ألقى خالد أبو شقرا كلمةً باسم أبناء بلدة عين عنوب، التي احتضنت مسيرة الراحل وموهبته، مؤكّدًا أن البلدة “ستبقى تحتفظ بإرثه كرمزٍ من رموزها الخالدة”.

واختُتمت الكلمات بكلمة العائلة التي ألقاها رمزي حمدان، شكر فيها كلّ المشاركين في التشييع من فاعلياتٍ وشخصياتٍ وجماهير، معاهدًا على حفظ إرث الراحل الشعري والوطني.

كما ألقى عدد من الشعراء والفاعليات قصائدَ وكلماتِ رثاءٍ في وداع من عُرِف بـ”سنديانة عين عنوب".

ثم أمّ الشيخ ابي المنى الصلاة على الجثمان والى جانبه المصلّي الشيخ ابو طاهر نديم المهتار، ليوارى الجثمان الثرى في بلدته عين عنوب.

وقد حضر التشييع الى جانب شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى، رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، عضوا “اللقاء الديمقراطي” أكرم شهيّب وهادي أبو الحسن، النائب مارك ضو، الوزير السابق غازي العريضي، والوزير السابق صالح الغريب، وحشدٌ من الفاعليات البلدية والاختيارية والثقافية، وأبناء البلدة والجبل وعموم لبنان.

بفقدان طليع حمدان، يطوي لبنان صفحةً من صفحات الذاكرة الفنية الأصيلة، تاركًا خلفه إرثًا شعريًا ضخمًا من الزجل المعاصر الذي تغنّى بالوطن والإنسان والحياة، وسيبقى صوته ورنين كلماته محفورَين في الوجدان اللبناني.