فورة أفراح في عزّ الوجع: أعراس بـ"دولار" وأعراس بـ"ليرة"

في لبنان «العالم الافتراضي»، صورُ أعراسٍ واحتفالاتُ زفافٍ وكأن الأحوالَ على «خير ما يرام» في «بلاد الأرز» أو أن الأزمات الهائلة التي قلبتْ حياة اللبنانيين ووضعت قسماً كبيراً منهم خلْف «قضبان» البؤس، لا مكان لها في حسابات الداخلين قلْباً واحداً إلى... «القفص الذهبي».

هل تعكس هذه الصور حقيقةَ ما يعيشه اللبنانيون المقبلون على الزواج أم أنها من نسيج الواقع الافتراضي ومجرّد خدعة بصرية وربما نفسية؟ هل مازال للأفراح مكان في حياة الشعب المُنْهَك، وهل مازال لحفلات الزفاف ما كان لها من عزّ وبذخ أم أنها هزلت ككل شيء في الوطن الصغير؟
شهد لبنان في العقود الأخيرة فورةً في حفلات الزفاف - كمّاً ونوعاً - وصارتْ مواصفاتُ الحفل تخضع لمعايير عالية يصعب القبول بما دونها، لا بل كان ثمة منافسةً بين الميسورين على مَن يقيم الزفاف الأضخم والأشدّ بذخاً.

ومع تقديم المصارف اللبنانية حينها قروضاً للزواج وفتْح صناديقها لتلقي الهدايا المالية من المدعوين، كان حفل الزفاف في متناول كل الفئات الفقيرة والمتوسطة والميسورة، ونشأتْ حول هذه الحفلات صناعةٌ متكاملة، بدءاً من مكاتب تنظيم الأعراس وصولاً إلى مكاتب السفر وتنظيم رحلات شهر العسل، مروراً بكوكبة واسعة من الخدمات من صالات أفراح وموسيقى وفنانين وزينة وأزهار وسيارات وفِرق زفة ومصممي أزياء ومزيّني شعر واختصاصيي ماكياج وغيرهم.

وكان حفل الزفاف الواحد يعود بمردودٍ مادي على ما لا يقلّ عن 20 مؤسسة و150 شخصاً، ويشكل رافداً دسماً لعجَلة الاقتصاد اللبناني.

ورغم أن الانهيار الشامل بدّل الأوضاعَ الاجتماعية، إلا أن بعض العادات مازالت راسخةً في حياة اللبنانيين وكأنه يصعب عليهم التخلي عنها، ومنها الاحتفال بـ «فرحة العُمر». صحيح أن الظرفَ ضاغِطٌ ولكن كلٌّ يحاول أن يمدّ «بساط» الفرح «على قدّ رجليه»، أما مَن يجد نفسَه غير قادر على ذلك فيفضّل الاستغناء عن حفل الزفاف أو حصْره بأفراد العائلتيْن فقط.

فورة أفراح في عزّ الوجع

«الراي» تحدّثت إلى منظمة احتفالات زفاف صاحبة أكثر من 20 سنة خبرة ورافقتْ أعراس لبنان في عزّها وقمة فخامتها ومازالت إلى اليوم تتولى تنظيم الحفلات التي لا شك باتت مختلفة عما كانت عليه بالأمس.

وتروي بشرى المير الهوا، أن موسمَ الأعراس مازال قائماً وقد عاد إلى ازدهاره بعد «جائحة كورونا» وشهد فورةً كبيرة في الصيف الماضي، وكأن لا أزمة في البلاد والناس عطشى للفرح. حتى ان كثيرين من المغتربين وفدوا خصيصاً إلى لبنان لإقامة أعراسهم فيه، كما أن بعض اللبنانيين الميسورين انتقلوا إلى الخارج لإقامة أعراسهم في دول مختلفة، وقد شكل هذا الأمر ظاهرةً لافتة.

الأسعار التي انخفضت سابقاً عادتْ إلى ما كانت عليه حين كانت قيمة الدولار مازالت 1500 ليرة، أي أن تكلفة الزفاف بالدولار مازالت كما كانت عليه، ما يعني أن مَن يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية باتوا عاجزين تماماً عن تحمل تكلفة الزفاف.

نغوص مع بشرى في كلفة الأعراس، فتؤكد أن زفافاً لـ 200 شخص تكلفته نحو 100 ألف دولار، ولا سيما أن تكلفة المأكولات والمشروبات ارتفعت كثيراً، وكذلك تكلفة الصوت والإضاءة التي بات أصحابها يحسبون ألف حساب لأعباء صيانتها وتصليحها، وأيضاً الورود والزينة التي تُعتبر من «الكماليات اللوكس».

أما المطربون ووسائل الترفيه فأسعارها بالدولار ولم يتم خفضها مطلقاً.

وحدها أجرة منظّمي الأعراس تراجعتْ في شكل كبير، لكنهم مضطرون للقبول لتأمين استمرارية عملهم، وكذلك تكلفة اليد العاملة التي مازالت غالبيتها على حالها وبالليرة. وصحيح أن الأعراس الكبيرة مازالت موجودة، لكنها باتت تركّز على الأساسيات مثل نوعية الطعام والترفيه وحُسن الضيافة وغاب عنها البذخ الشديد مثل الديكورات المبالَغ فيها وضخامة عدد المدعوين.

وكأن اللبنانيين تعلّموا مما تمرّ به دولتهم أن البذخَ والإنفاق غير المسبوق لا يمكن إلا أن يوصل إلى الهاوية، فباتوا يحسبون الحساب لِما ينفقونه. وعلّمتهم تجربةُ الأموال المحجوزة في المصارف أن ما يجنونه يمكن أن يتبخّر بلمحة بصر ولا يعودون قادرين على الوصول إليه والأجدى بهم التحسّب دائماً للغد حتى في فرحة العمر.

عرس بلا مدعوّين

مئة ألف دولار رقم ملتبس، بعضهم يراه خيالياً في هذا الزمن الصعب، وبعضهم يجده عادياً ومقبولاً وأرخص من تكلفة إقامة زفاف في أي بلد آخر خصوصاً أن الذوق والفخامة والجمالية التي تتميز بها أعراس لبنان باتت مضرب مثَل. لكن ماذا يفعل مَن يتقاضون رواتبهم بالعملة اللبنانية؟ هل محكومٌ عليهم التخلي عن حلم الزفاف؟

«الكل يمكن أن يجد ما يناسبه، وهؤلاء غالباً ما يتّجهون نحو حزمة متكاملة لا تتعدى تكلفتها 10 آلاف دولار وذلك في صالات أفراح صغيرة أو مطاعم عادية مع عدد مدعوين محدود. وقد صارت الصالاتُ الكبيرة تقسم مساحتها إلى أجزاء أصغر وتؤجّر قسماً صغيراً من المساحة ليقام عليه حفل الزفاف وذلك لتوفير التكلفة على العروسين. ومَن لم يكن قادراً على تحمّل هذه التكلفة فإنه يكتفي بعرس مختصر جداً جداً»، وفق منظّمة الأعراس.

كما كل شيء في لبنان تبدو حفلات الزفاف متناقضة بين البذخ والتقتير. وفيما بعض العرسان غير قادرين حتى على تأمين المستلزمات الأساسية للزفاف، ثمة آخَرون لا يتوانون عن إقامة حفل كبير في أرقى الفنادق أو صالات الأفراح.

فندق فينيسيا الذي فتَح أبوابه مجدداً بعدما أُقفلت قسراً نتيجة انفجار مرفأ بيروت عاد يستقبل حفلات زفاف للبنانيين ومغتربين، وكذلك فندق الحبتور الذي كان مغلقاً.

أما فندق كمبنسكي الذي لم يتوقف عن العمل خلال «كورونا» وبعد «بيروتشيما» فلم «تسترِح» حفلات الزفاف فيه مطلقاً. وما يساعد على هذا أن أسعار إقامة الأفراح في الفنادق تبقى أرخص منها في صالاتٍ خارجها، لأن خدمات الضيافة موجودة أصلاً في الفندق. وتؤكد بشرى أن حجوزات صيف 2023 بدأت وهي تبشّر بموسم أعراسٍ جيد جداً.

رغم أزماته الكثيرة والخانقة والتي تهدّد بالتفاقم وتضييق الخناق على أهل لبنان، تبقى ثمة بارقة ضوء تشعّ من خلال المغتربين وأولئك الذين يعملون مع شركات أجنبية ومنظّمات دولية ويقبضون رواتبهم بالعملة الصعبة. وهؤلاء يشكلون الرافعة المالية للبنان وأهله، وفي موسم الأعراس هم العجَلة التي تسيّر هذه الصناعة بكل أوجهها.

... إنها «فرحة العُمر» وجهاً لوجه أمام «انهيار العَصْر»، تعانِد أن تغمرها موجاتُ التضخم، لتبقى الأفراح في ديار لبنان عامرةً، بين أعراس بـ «دولار» و... أعراس بـ «ليرة».