المصدر: جريدة الحرة
الكاتب: شليطا بو طانيوس
الجمعة 23 أيار 2025 14:14:36
كتب رئيس المجلس التربوي في حزب الكتائب اللبنانية د. شليطا بو طانيوس، مقالًا في جريدة الحرة بعنوان : "في ظل التحولات التي يعيشها الشرق الأوسط الجديد، أيّ لبنان نريد؟"
جاء فيه:
"شهد الشرق الأوسط اليوم تحوّلات سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة عميقة، تعيد رسم خريطة النفوذ والتوازنات في المنطقة، في ظل تراجع أدوار تقليدية، وصعود قوى إقليمية جديدة، وتبدل الأولويات الدولية. فبعد أن كان المرور بطهران لدخول الشرق إلزاميًّا في عهد بايدن الديمقراطي، انقلبت الصورة تمامًا في عهد ترامب الجمهوري، الذي اختار الرياض أوّلًا وفيها حطّ في أولى زياراته الخارجيّة. وفي خضم هذه المتغيرات المتسارعة، يُطرح سؤال جوهريّ: أيّ لبنان نريد؟
يقف لبنان اليوم على حافة تحوّل مصيري، إذ لم تعد أزمته مجرّد أزمة سياسية أو مالية، بل تحولت إلى أزمة وجودية تطال مفهوم الدولة والهوية والدور. وقبل الغوص في أسبار لبنان اليوم والمستقبل الذي نريد! لا بدّ من عودة في التّاريخ لقراءة الحاضر واستشراف المستقبل.
في ستينات القرن الماضي، كان لبنان نموذجًا فريدًا في الشرق الأوسط يُعرف بـ “سويسرا الشرق”: مطار بيروت كان بوابة العرب إلى الغرب. مدارس لبنان وجامعاته كانت منارات التعليم في الشرق. الليرة اللبنانية كما المصارف كانت ملاذًا ماليًا عالميًا. الاقتصاد مزدهر، السياحة مزدهرة، ولبنان ملتقى العرب…
لكن هذه الصورة الجميلة لم تصمد طويلًا…
عام 1975 اندلعت الحرب اللبنانية، وتحوّل لبنان من جسر بين الشرق والغرب إلى ساحة صراع إقليمي ودولي. تحوّل السلاح الفلسطينيّ من سلاح “مقاومة” إلى أداة سلطة. انقسمت بيروت، وسقطت مؤسسات الدولة، وفَقَدَ لبنان سيادته…
عام 1990 انتهت الحرب بتوقيع اتفاق الطائف، ورغم نهايتها، لم تُبنَ الدولة. لُزّم لبنان لحافظ الأسد الذي أخضعه للاحتلال السوري. أُعيد توزيع النفوذ الطائفي وشعر المسيحيّون أنّهم مغلوبون. قام الاقتصاد الرّيعيّ واستشرى الفساد وحلّت الزّبائنيّة بدل الإنتاج.
عام 2005 فجّر اغتيال الرئيس رفيق الحريري مرحلة جديدة من تاريخ لبنان. زاد الانقسام الداخليّ. برز حزب الله كقوّةٍ وحيدةٍ نافذةٍ داخليًّا، وتعمّقت التبعيّة لإيران كقوّة إقليمية. وتهاوى اقتصاد لبنان بعد أن انسلخ اللبنانيون عن محيطهم العربي والعالميّ، وصولًا إلى الانهيار الكبير الذي بدأ بشكل تصاعدي من العام 2019.
عام 2020 كان المشهد الأكثر فداحة لفشل الدولة، انفجار مرفأ بيروت، الذي شكّل صدمة عميقة للبنان والعالم وخلّف آلاف الجرحى والقتلى، وخسائر ماديّة قدّرت بأكثر من 15 مليار دولار.
2023 – 2024: اندلعت الحرب الأخيرة في غزة. عاد لبنان ليتحوّل إلى ساحة رسائل نارية، وتبيّن مجددًا أنه بلد لا يملك قراره الاستراتيجي. خسائر بشريّة وماديّة جسيمة، وعَودٌ على بدء…
باختصار، عاش لبنان 50 عامًا ونيّف أزمات سياسيّة واقتصاديّة متتاليّة، كان خلالها هذا الوطن الصغير بمساحته، صندوق بريد وأداة بيد قوى خارجيّة، عملت على تحقيق مصالحها الذاتيّة على حساب لبنان واللبنانيين… أَفَلَم يحن الوقت اليوم لنعيش لبنان الّذي نريد؟ وأيّ لبنان نريد؟
نريد لبنان الحرّ السيّد والمستقل، المحايد، الذي ينأى بنفسه عن الصراعات الخارجيّة، ويركز على أولوياته الداخليّة: الاقتصاد، الصحة، التعليم، البنية التحتية. لبنان الذي يكون جسراً للحوار والتواصل لا منصة للاقتتال والتصادم.
نريد لبنان اللامركزيّة الإداريّة في ظلّ التعددية الغنيّة، التي إذا ما استُثمرت في الاتجاه الصحيح، تؤدّي إلى بناء دولة عادلة تحترم الاختلاف وتُوزّع السلطة بإنصاف، دولة تتجاوز الصراعات الطائفية لصالح تنمية وطنية متوازنة.
نريد لبنان دولة القانون والمؤسسات التي تحمي جميع مواطنيها من دون تمييز حزبيّ أو طائفيّ. دولة يطبّق فيها القانون على جميع أبنائها بمساواة، ولا يطبّق فيها على فئة دون أخرى. دولة تُبنى فيها السلطات على الكفاءة والشفافية، لا على الزبائنية والإستسزلام.
نريد لبنان المنفتح على عمقه العربي ومحيطه الدولي. لبنان الذي يستعيد دوره كصلة وصلٍ بين الشّرق والغرب. لبنان الذي يمدّ اليد لشركائه العرب والدوليين، لكن من موقع الندّية والسيادة، لا من موقع الخاضع والتابع.
نريد لبنان الشباب، لبنان تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، حيث تتوفر فرص العمل، ويتم الاستثمار في التعليم والبحث. لبنان الذي يحتضن شبابه بدل أن يدفعهم للهجرة، ويوفر لهم بيئة سياسية واقتصادية حاضنة، للبقاء لا للسفر.
نريد لبنان النموّ الاقتصادي… نريد لبنان الثقافيّ والرياديّ… نريد لبنان الذكاء الطبيعيّ والاصطناعيّ والرقميّ… ولتحقيق ذلك، لا بد من إرادة وطنية صادقة، تُترجم ما ورد في خطاب القسم وفي البيان الوزاري بشكل سريع، تسحب السلاح غير الشرعي، وتنفّذ برنامج إصلاحٍ شامل، يضع البلاد على سكة النهوض الحقيقي، ويعيد الأمل لشعب أنهكته الحروب والأزمات."