قصة تلوّث المياه: مئات ملايين الدولارات صُرِفَت لنُصاب بالأمراض!

أعادَ انتشار وباء الكوليرا التركيز على قضية تلوّث المياه التي وصلت إلى خطوطها الحمراء في ظل الانقطاع المستمر للكهرباء، والذي أدّى إلى توقّف محطات تكرير المياه ومحطات ضخ مياه الشرب، ما أجبَرَ السكّان على رفع مستوى الاعتماد على مصادر غير مضمونة للمياه. علماً أن المياه الآتية عبر مؤسسات المياه الرسمية، ليست نظيفة بالكامل.
وملفّ المياه الملوّثة ليس جديداً وإن اختلفت نتائجه. فقبل الكوليرا، كانت المزروعات المروية بالمياه الآسنة، ثم الأسماك النافقة في بحيرة القرعون، والتي انتشرت في الأسواق. وخلاصة الأمر، إنفاق مئات ملايين الدولارات لمعالجة المياه الملوّثة، بلا فائدة.

غياب التخطيط
قضية تلوث المياه، هي قضية تراكم الإهمال وغياب التخطيط حول آلية الحصول على المياه وحماية الموارد المائية السطحية والجوفية. وتجلّى الغياب بمواصلة تجاهل الخطة الإنمائية التي وضعتها بعثة إرفد IRFED في العام 1961، ثم بإلغاء وزارة التخطيط في العام 1977 واستبدالها بمجلس الإنماء والإعمار، الذي أهملَ حتّى العاصمة بيروت، التي حاولت خطط إعادة الإعمار بعد الحرب، التركيز على بناها التحتية على حساب باقي المناطق. فاشتركت بيروت مع المدن والقرى الأخرى، بشبكات مياه طُمِرَت تحت الأرض بلا صيانة، وتُرِكَت عرضة للاختلاط بالمياه الآسنة بسبب غياب شبكات الصرف الصحي، أو في أحسن الأحوال، عدم صيانتها.

ومع وضوح الأزمة، لم تحرّك الدولة ساكناً. بل تابعت إدارة ملف المياه وشبكات الصرف الصحي، بنهجٍ مقاولاتي وليس إنمائي، عن طريق التلزيمات السياسية. وفي العقد الأخير، برزت مشكلة مكبّات النفايات الرئيسية. ونَقَلَ انسداد أفق السجال السياسي حولها، النقاش من إيجاد حلول للمكبّات الرئيسية، إلى كيفية التستُّر عن المكبات والمطامر العشوائية التي انتشرت في المناطق، وخصوصاً في الأطراف، بعد إقفال عدد من المكبات وانتهاء عقود شركات جمع النفايات ونقلها (مثل شركة سوكلين)، ما دَفَعَ بالبلديات إلى التخلص من نفاياتها كيفما اتَّفَق، وصولاً إلى طمرها بمحاذاة مجاري المياه وتحت أتربة البساتين.

تمويل بلا فائدة
الصورة الأوضَح لهذه الأزمة، يلخّصها تلوّث نهر الليطاني أطول الأنهار اللبنانية. فمأساته تتنقّل بين القرى والمدن من البقاع إلى الجنوب، لتصبّ في البحر، خارقة اتفاقية برشلونة لحماية البحر الأبيض المتوسط. على أن التلوّث لم يكن صامتاً، كما أن الدولة لم تصمت أيضاً. وعدم صمتها تحوَّلَ حُجَّة عليها وليس لها. إذ أقرَّت المشاريع ورصدت الأموال وفُقِدَت من دون نتائج. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أقرَّ مجلس النواب في العام 2016، القانون رقم 63 المتعلّق بتخصيص اعتمادات بقيمة 1100 مليار ليرة لتنفيذ محطات التكرير في حوض الليطاني.

وعليه، فإن نحو 733 مليون دولار، اختفت من دون اختفاء التلوّث في الحوض، والذي ينسحب إلى بحيرة القرعون فيلوّثها ويسمّم أسماكها التي خرج منها ما لا يقل عن 10 آلاف طن من الأسماك الملوثة انتشرت في الأسواق. وتلك الملايين تضاف إلى 55 مليون دولار، هي قيمة تمويل من البنك الدولي، أقرّت في العام 2016، "للحد من تدفق المياه الملوثة إلى بحيرة القرعون".
في محاولة لتخفيف الوطأة، أطلقت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني مشروع المنصات العائمة في بحيرة القرعون، في العام 2018. والمشروع عبارة عن تركيب 11 منصة لمكافحة السموم في مياه البحيرة. وكلّفَ المشروع 400 ألف دولار قدّمتها الدولة الهولندية كهبة.
في العام 2019 انشغل اللبنانيون بأزمتهم المالية والاقتصادية والنقدية. ولأنها طالت مؤسسات الدولة، باتت الأزمة ذريعة لانتشار المكبات العشوائية وعدم مراقبة المؤسسات والشركات التي ترمي أوساخها ومياه الصرف الصحي خاصّتها في الأنهار والمسارات المائية. فتراكمت المشكلة حتى تمثّلت في العام 2021 بظاهرة الأسماك النافقة في بحيرة القرعون. وأمام تراكم الأزمات واختفاء الأموال المرصودة كقروض وهبات لمعالجة تلوث الأنهار ومسارب المياه، صَدَقَ المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، سامي علوية، بتوصيفه الدولة بأنها "متحللة لدرجة كبيرة ومستمرة بمسلسل الكذب". وليخلص منذ العام الماضي إلى القول بأن "الدولة اليوم لا يمكنها أن تضمن أمناً غذائياً بالمجارير. ولو كانت المجارير تسرق لكانوا سرقوها".

تجمّعات النازحين
عادةً ما تغطّي صورة النازحين السوريين أو اللاجئين الفلسطينيين أو قضايا العاملات الأجنبيات.. وغيرها من الأنباء المتّصلة بالأجانب، على فساد اللبنانيين. ويهوى جمهور الأحزاب إلقاء اللوم على النازحين، وكأنهم من اخترع التلوّث ونشرَ الأوبئة. على أن المسؤولين السياسيين يسارعون بدورهم لاستغلال النزوح لطلب المزيد من الأموال بحجّة مساعدتهم أو درء خطر ما ينطلق من مخيّماتهم وتجمعاتهم السكانية التي تتّصف بالعشوائية وغياب البنى التحتية اللازمة. وهذا ما جسّده وزير الطاقة وليد فيّاض في مؤتمر القاهرة المنعقد مطلع الشهر الجاري، حين طالَبَ بتكاتف "الحكومات والجهات المموِّلة"، لانجاز مشاريع المياه. ويقصد بها السدود. محاولاً إظهار السدود كحلّ سحري لتأمين المياه النظيفة لتجمعات النازحين، كما اللبنانيين. (راجع المدن).

يلخّص ملف تلوث المياه، سوء الإدارة المنظّم من قِبَل الحكومات والوزارات، وخصوصاً وزارات الصحة والأشغال العامة والطاقة والمياه والبيئة، إلى جانب مجلس الإنماء والإعمار. فكلّ جهة تحمل جزءاً من المسؤولية. أمّا الحل، فليس وارداً في المدى المنظور. فتأكيد منظمة اليونيسف على أن شبكة مياه الشرب مهترئة ومتداخلة في الكثير من المناطق مع شبكة الصرف الصحي، فضلاً عن حقيقة عدم وجود شبكات للصرف الصحي في مناطق أخرى، كما أن استمرار تلوّث مجاري الأنهار بالصرف الصحي والنفايات الصلبة، يعني أن أيّ حلٍّ سيكون مجتزءاً، وأن الأمراض لن تكفّ عن الظهور. مع التأكيد بأنها ليست حدثاً مفاجئاً، فالسرطانات القاتلة منتشرة بفعل التلوث.