آلاف المباني مهددة بالانهيار في طرابلس: طوفان وفقر وإهمال

في بيتٍ صغيرٍ وضيّق على أطراف طرابلس القديمة، تعيش الطفلة ليلى مع عائلتها في جدران تتشقق ببطء، تحكي العتمة والصمت مرارة الفقر وقسوة الواقع.

ليلى الطفلة التي تكبر وسط القلق، يلسع البرد جسدها في ليالي الشتاء، وتحرقه الشمس في أيام الصيف والحرّ. حال بيت عائلة ليلى كحال عشرات بل مئات البيوت على أطراف نهر أبو علي وفي طرابلس القديمة، بمناطقها وأحيائها وشوارعها، مهدد بالانهيار في أي لحظة. ومع علم سكانه بالأمر لكنهم غير قادرين على إيجاد البدائل. 

مصير عائلة ليلى قد يكون مثل مصير العديد من العائلات التي انهارت منازلها فوق رؤوسها في حال عدم إيجاد حلول مستدامة لمئات المباني المهددة في المدينة. فالذاكرة الطرابلسية مثقلةً بمآسي مؤلمة، آخرها كانت مأساة الطفلة جمانة ديكو، التي فارقت الحياة إثر انهيار مبنى في ضهر المغر – القبة مطلع عام 2023، حيث لم تسعفها جهود الإنقاذ، وكانت ضحية جديدة لسكنٍ غير آمن. ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة، إذ كادت الكارثة أن تقع مجددًا قبل نحو أسبوع، مع مبنى مدرسة المربية "سامية الشنبور"، الذي سقط جزء منه نحو الطريق العام. ولولا العناية الإلهية وتوقيت الحادثة، لكان قد وقع على سيارات ومارّة، وأدى إلى مأساة جديدة. وجرى تلافي سقوط ضحايا من الطلاب، بعد نقل المدرسة منذ نحو ثلاثة سنوات إلى منطقة أخرى، بسبب التشققات وتفسخ أساسات المبنى، الذي صنّف غير آمن. 

وتعود الذاكرة أيضًا إلى ما قبل ذلك، وتحديدًا إلى سقوط سقف مدرسة "الأميركان" في جبل محسن قبل ثلاث سنوات، وهي الحادثة التي أودت حينها بحياة طالبة، وشكّلت صدمة في المدينة لم تُمحَ آثارها حتى اليوم. 

 

أكثر من 1000 مبنى مهدد
تواجه طرابلس خطرًا متصاعدًا يُهدّد آلاف الأسر، إذ تشير إحصاءات بلديتها إلى وجود نحو 700 مبنى مهدد بالانهيار، بعد أن كان الرقم لا يتجاوز سابقًا الـ 300 مبنى فقط. وعندما تُضاف مناطق الجوار ضمن اتحاد بلديات الفيحاء، يرتفع العدد إلى أكثر من 1000 مبنى على الأقل. ورغم صدور قرارات إخلاء بعض هذه الأبنية، يظل العديد من سكانها محاصرين بين مخاطر السقوط وغياب البدائل السكنية، ما يجعلهم يعيشون في قلق دائم وخوف من الكارثة.

تتوافق هذه الأرقام مع نتائج دراسات ميدانية عدة، أبرزها تقرير مركز البحث الهندسي والبيئي "استديو أشغال عامة"، وهو مركز متخصص في الدراسات الهندسية والبيئية في لبنان، الذي وثّق وجود 16,260 مبنى مهددًا بالانهيار في لبنان، بينها أكثر من 4000 مبنى في طرابلس، زحلة، وصيدا وحدها. أما منظمة العفو الدولية، فتكشف في تقريرها الأخير عن وجود ما بين 800 إلى 1000 منزل في طرابلس مهدّد بالانهيار السريع، لتسلط بذلك الضوء على مأساة يعيشها آلاف السكان على هامش الأزمات المتعددة.

 

الانهيار من الطوفان إلى الإهمال 
بعض هذه المباني يعود تاريخ تشييده إلى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وبعضها الآخر يعود إلى العهد المملوكي والعثماني، ما يجعلها ذات قيمة تراثية وعمرانية عالية، لكنها تُعامل كعبء على المدينة، لا ككنز تراثي سياحي يختزن تاريخ طويلاً من الحضارات التي مرت عليها.

تنوّعت الأسباب التي قادت إلى تصدّع هذه الأبنية. من طوفان نهر أبو علي، إلى آثار الحرب الأهلية، مرورًا بجولات العنف والاشتباكات التي عصفت بالمدينة في العقود الأخيرة.

لكن الأخطر من كل ذلك، هو إهمال أصحاب هذه العقارات، وهجرهم لها، دون ترميم أو تدعيم، ما أدى إلى تآكل الأساسات، وتساقط الجدران والأسقف، حتى باتت هذه الأبنية قنابل موقوتة، بينما المفترض أن تكون هذه التحف العمرانية، رافدًا سياحيًا واقتصاديًا للمدينة، لكنها تحوّلت إلى مصدر خوف دائم لسكانها.

 

شراء المباني التراثية وإعادة تأهيلها
الدكتور جلال حلواني، الرئيس الأسبق للجنة البيئة في بلدية طرابلس، يطرح رؤية انقاذية لهذه الأبنية، تقوم على إنشاء جمعية غير ربحية، تتموّل من رجال أعمال من أبناء المدينة وجهات مانحة، وتعمل على شراء المباني التراثية وإعادة تأهيلها، للحفاظ على هوية طرابلس المعمارية.

ويشير إلى أن "كلفة الترميم تفوق قدرة البلدية، وتقع المسؤولية أولاً على صاحب العقار، والبلدية دورها الكشف والإنذار، ويمكنها التدعيم على نفقتها وتسجيل المبلغ كدينٍ على المالك.. مديرية الآثار دورها استشاري-معنوي ولكن بوجود وزير نشيط، وحصولها على دعمٍ خارجي، من جهات مانحة، يمكنها أن تبادر وقد سبق لها أن خاضت تجارب مماثلة.

ويختم بدعوة وزير الثقافة غسان سلامة لوضع طرابلس وأبنيتها التراثية بأعلى مراتب الاهتمام، وتحويلها إلى مزارات ومتاحف ذات طابع تاريخي، على غرار المغرب مثلاً، بدل تركها تنهار، بفعل الإهمال الرسمي المزمن.

بغياب خطة حكومية، وبانتظار مبادرات محلية، يبقى المستقبل معلقًا بين قرار حاسم وتجاهل قاتل، بينما تصارع طرابلس أزمة عمرانية تتطلب وقفة جدية ومسؤولية حقيقية. ويبقى الأمل قائمًا على أن تقوم جهة مسؤولة ما، بتحمّل مسؤوليتها، وإيجاد حل يريح الناس ويجعل المدينة تتنفس.