لبنان والتّهديد الوجودي بين ما حاوله محور الممانعة والبعث السّوري وتحذيرات توم براك

التصريح الأخير للموفد الأميركي توم براك بشأن الخطر الوجودي الذي يداهم لبنان نتيجة إصرار "حزب الله" على الاحتفاظ بسلاحه وربط مصيره بإيران يجب أن يؤخذ على محمل الجد، لا بسبب وجود مؤامرة عالمية لإزالة لبنان عن الخريطة، بل نتيجة التطورات الكبيرة التي شهدتها المنطقة، ولا تزال، منذ أحداث 7 أكتوبر 2023. فمحاولة "حزب الله"، بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني، إعادة عقارب الساعة للوراء ومنع التغيير الجارف الذي أحدثته الضربات الكبيرة لمحور الممانعة، وتحديداً سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ستأتي بعواقب كارثية على لبنان عامةً وشيعته خاصةً.

لطالما تحدث خبراء ومسؤولون في لبنان والمنطقة عن خطر إعادة ترسيم حدود الدول التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو قبل أكثر من قرن من الزمن، خاصة في ضوء ما شهدته بعض ساحات الشرق الأوسط من حروب أهلية، وصراعات مذهبية، وعرقية، وأيديولوجية. إلا أن حدود هذه الدول لم تتغير خارج إطار الصراع العربي-الإسرائيلي والفلسطيني-الإسرائيلي، وما أسفرت عنه حروب 1967، و1973 و1982.

ثمة من كان يتحدث عن سوريا الكبرى من منطلق تنظيري، فيما سعى لذلك البعض الآخر، كما كانت الحال مع "حزب البعث العربي" في سوريا الذي لم يخف نياته عن ضم لبنان، لكن بعد مواجهة معارضة كبيرة من القوى العظمى، اكتفى بالسيطرة عليه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من عام 1976 حتى خروج قواته عام 2005، إذ انتقلت السيطرة يومها لإيران التي أبقت على بعض النفوذ لنظام الأسد في لبنان.

قوى الإسلام السياسي السني والشيعي سعت دائماً لإزالة حدود الدول تحت شعار إعادة إحياء الدولة الإسلامية. فشهدنا محاولة "داعش" إنشاء دولته من حمص والرقة باتجاه الموصل. كما شهدنا بعدها كيف استغل الحرس الثوري ذلك لإنشاء هلال شيعي عبر نشر التشيع في سوريا وتهجير ملايين عدة من سنّة سوريا بهدف تنفيذ مشروع تغيير ديموغرافي بإحضار عشرات آلاف المواطنين الشيعة من باكستان وأفغانستان والعراق إلى سوريا، وتجنيسهم.

طبعاً لم تمانع القوى الحاكمة في لبنان خلال العشرين سنة الماضية عمليات الضم الخفي بإشراف من النظامين السوري والإيراني عبر محاولات التغيير الديموغرافي في سوريا، في وقت هاجر عشرات آلاف المسيحيين من لبنان وسوريا، واغتيل الزعيم السني اللبناني المعتدل والقوي رفيق الحريري، ما أثر بالطائفة وجعلها بحالة ضعف لم يتمكن التوريث وما تلاه من إخراجها منه.

ولقد ساعدت نظرية حكم الأقليات التي ساهم بنشرها زعامات، ومنها مسيحية، محور الممانعة بتنفيذ مخططه بلبنان، إذ ارتكزت هذه النظرية على أن الخطر الأكبر الذي يواجه الطوائف في سوريا ولبنان هو المد السني الكبير، وأفضل طريقة لمواجهته هو عبر تحالف الأقليات: الشيعة، والعلويين، والمسيحيين، والدروز. والسيطرة العلوية على الحكم في دمشق سهلت ذلك. وهذا كان يناسب الدولة العبرية، وهي أقلية في المنطقة.

أما اليوم، ومع وصول إدارة جديدة للحكم في سوريا من كنف الإسلام السياسي السني، وقرار إسرائيل والقوى الغربية والعربية إنهاء أذرع إيران، تغير الوضع. فنظرية حكم الأقليات لم تعد قابلة للتطبيق. وما يزيد الوضع تعقيداً هو فتح خط المفاوضات بين إسرائيل وحكام دمشق الجدد للوصول لاتفاق سلام برعاية دولية. فلبنان يتأثر كثيراً بنظام الحكم في سوريا، وهذا النظام اليوم لن يقبل باستمرار وجود قوى شيعية أيديولوجية مسلحة كـ"حزب الله" على حدوده، شاركت بالحرب ضده ويعتبرها معادية له وتستمر بنشاطاتها العسكرية وتنادي بمحاربة إسرائيل في وقت هو يتجه للتطبيع معها.

رفض "حزب الله" تسليم السلاح وإصراره على التبعية لقرار طهران، سيؤديان حتماً لعودة الحرب الإسرائيلية، حسب تقديرات مسؤولين كثر، ومنهم براك. ويتوقع المراقبون أن تكون بشراسة حرب غزة، وقد تدفع إسرائيل لتوسيع احتلالها في جبل عامل الشيعي وربما أجزاء من البقاع. وتجدد الاشتباكات ذات الطابع المذهبي على الحدود الشرقية مع سوريا قد يدفع بعمليات توغل داخل لبنان. هذا تحديداً الخطر الذي يتحدث عنه براك. ولن تتدخل واشنطن لوقف أي عمليات ضد "حزب الله" لأن هدف إزالة خطر أذرع إيران عن حدود إسرائيل قد اتخذ. فإما أن يلحظ قادة لبنان الذين وصلوا بدعم خارجي وزعماء الطائفة الشيعية هذا الخطر الداهم ويتحركوا بسرعة لحصر السلاح بيد الدولة وفرض سلطتها، أو يواجه البلد خطر الزوال أو فقدان بعض محافظاته بعمليات تبادل للأراضي قد تحدث ضمن اتفاق للسلام بين سوريا وإسرائيل.