مأساة مزارعي البقاع تتكرر...التهريب "المدعوم "يغرق الأسواق

لكل موسم زراعي في لبنان أزمته، إلا أن القاسم المشترك بين جميع هذه الأزمات هو في مضاربة المنتوجات السورية للإنتاج اللبناني. ولا يختلف الواقع بالنسبة لمواسم البقاع. فبفضل هذه المواسم يقال أن لبنان لا يشبع من أرضه إلا بفصل الصيف. إلا أن الشبع تحوّل تخمة في الأسواق مؤخرا. سدّت قابلية الأسواق على خيرات الأرض البقاعية، فتدنت أسعار تصريفها إلى  ما دون كلفة الانتاج. والسبب مجدداً في المضاربة غير المشروعة التي يتسبب بها الإنتاج السوري الأقل كلفة، والذي يستمر تدفقه بطرق غير شرعية، على رغم كل الإجراءات التي يتخذها الجيش اللبناني في مكافحة التهريب عند معظم المعابر البرية المشتركة والمتداخلة بين لبنان وسوريا.

صرخة المزارعين ومصلحة المستهلكين
قبل أيام إرتفعت الصرخة من هذه المضاربة في نيحا، التي بدأت تخرّج باكورة موسم العنب البقاعي. فشكا مختار البلدة عماد الرميلي من تدهور قيمة المنتج بنسبة 60 بالمئة، متحدثاً عن منافع يحققها التجار وبعض المسؤولين، من أمنيين وسياسيين "عديمي الضمير"، يراكمون ثرواتهم على حساب المصلحة الوطنية.
في القاع،  اعتصم الأهالي لحث الدولة على القيام بواجباتها في مكافحة هذا التهريب. في وقت إعتبر رئيس تجمع مزارعي البقاع ومنتجيه إبرهيم الترشيشي أن إعلاء الصوت هو سلاح المواجهة الوحيد الذي يملكه المزارعون لمجابهة عمليات التهريب. مؤكدا ان ضرر هذا التهريب لا يستثني اي مزارع في لبنان، وهو بالتالي يلحق الأذى بقطاع كامل، بمقابل إنتفاع بضعة من التجار.

إلا ان موقف المستهلك تجاه الشكوى قد يحمل التناقض. فهو من ناحية، يدين كل إساءة يتسبب بها التهريب للمصلحة الوطنية، ولكنه أيضاً يشتري هذه المنتجات عندما تتوفر له بأسعار أدنى من مستواها في الأسواق المحلية. حتى لو كان مدركاً تماماً بأن الوفر الذي تحققه مضاربة الإنتاج السوري مرحلياً، سيخلف تداعيات خطيرة على الزراعة والمزارعين مستقبلاً.

يجزم المزارع أسعد سلمان من بلدة شمسطار أنه إذا بقي فلتان الحدود على ما هو عليه، لن يصمد مزارع أكثر من عامين إضافيين. فبالنسبة لسلمان يكاد لا يمر موسم زراعي بدون كفاح. وخصوصاً في ظل عدم تكافؤ أسعار المنتجات مع أتعاب المزارعين والتكاليف التي يتكبدونها. إلا ان هذا الأمر فاقمه مؤخرا دولرة أسعار الأدوية والمبيدات، وحتى كلفة المازوت والكهرباء التي يحتاجها المزارع في تأمين الإنتاج، في وقت لا يزال إحتساب سعر المحصول يتم بالليرة اللبنانية.

يشرح سلمان أن كلفة موسمه كواحد من أصغر المزارعين تصل الى 25 الف دولار في الموسم. أي أنه يحتاج الى ما لا يقل عن ملياري ليرة لإسترداد رأسماله، وهو مبلغ يصعب عليه جمعه، حتى لو أمن تصريف كلي لإنتاجه، فكيف الحال إذا كان المزارع يعاني من سوء التصريف ومضاربة البضائع المهربة. ويقول سلمان في المقابل بأن كل شحنة مهربة تحتاج الى أسبوع لتصفّى في  الأسوق، بينما إنتاجنا في هذا الموسم يومي، وكل يوم يتعرقل فيه هذا التصريف يضيع فيه من الرزق.

تراجع التصدير 
في الموازاة، فإن المشكلة بالنسبة لجوزف فرح وهو تاجر خضار في سوق الجملة في الفرزل لا تختزل بالمنتجات المهرّبة، وإنما يفاقمها توقف تسفير البضائع اللبنانية الى الخارج، ما جعل الكميات المنتجة أكبر من حاجة السوق، وبالتالي بات كل كيلو إضافي يدخل من الخارج عبئا على الإقتصاد. ومن هنا يحذر من أنه إذا لم يجد العنب اللبناني سبل تصريف له في الخارج، سيغرق السوق بكميات ربما تؤدي الى كساد الموسم عموماً.

يؤكد المزارعون أنهم بمقابل تضررهم من المضاربة، لا يستفيد المستهلك من أسعار تتناسب مع حجم الضرر، فالبضائع تباع بسوق المفرق بأسعارها المنطقية، وهذا وإن كان يرتبط في جزء منه بكلفة النقل والأجرة المرتفعة في تشغيل المؤسسات، إلا أنه لا ينفصل كلياً عن جشع التجار الذين يحققون ارباحاً طائلة على حساب عموم المزارعين والمستهلكين.

يعطي فرح مثلا على ذلك بأن كيلو اللوز كان يباع في سوق الجملة بخمسين الف ليرة إلا انه لم يتدن في الاسواق عن الـ 150 الى 200 الف ليرة. وكذلك بالنسبة للبندورة وسائر الخضار الاخرى التي لا يتخطى سعر الكيلو منها الـ 30 ألف ليرة وتباع في أسواق المفرق ب70 الى 80 ألف ليرة...

ولكن حتى جشع التجار هذا ما كان ليقضم حق المزارع بسعر عادل، لو أن البضاعة المهربة لا تدفع المنتجات اللبنانية الى الكساد، وبالتالي تحطيم أسعارها.

ويشير فرح هنا إلى أن للتهريب حدّين، فهو يتم من لبنان الى سوريا عندما يكون سعر المنتج فيها أعلى من سعره بلبنان، فحينها يرتفع سعر المنتج المهرب في السوق المحلي لمصلحة تغذية السوق السوري، ويحجم الناس عن شرائه، كما حصل مثلا بالنسبة لسعر الكرز الذي هُرّب الى سوريا. أما عندما يكون سعر المنتج أعلى في لبنان، كما هو الحال بالنسبة لمعظم إنتاجات الخضار، فيكون التهريب من سوريا الى لبنان، وهذا ما يجعل المزارع يبيع إنتاجه بأقل من كلفته. علما أن المستفيد في الحالتين هو التاجر المهرب، الذي يبدو مرتبطاً بشبكة متكاملة لتسهيل مرور شاحناته على الحدود أولا، ومن ثم تأمين تصريف الإنتاج في الداخل. فيما تحرك أجهزة الرقابة لا يكون بمعظم الأحيان سوى لضبط بضعة حمولات، بعد إرتفاع الصرخة، بمقابل إفتقادها للإستدامة في تأدية مهماتها، والتي وحدها بحسب تجار سوق الخضار، يمكن أن تشكل عامل ضغط يخنق المهربين ويصعب مهمتهم.

في حديثه عن الدور الذي تؤديه أجهزة الجمارك، يتحدث أحد التجار عن تركيزها مهماتها في الامكنة الخاطئة. وينصحها بأن تتوجه الى الأسواق الكبيرة في عكار وطرابلس التي تنطلق منها كميات الإنتاج المهرب الى سائر الاراضي اللبنانية، لتصل حتى الى عقر دار المنتج البقاعي في عز موسمه.
إلا أن هذه البضائع ما كانت تصل الى هذه الاسواق لولا المعابر غير الشرعية.

تهريب "تاريخي"
تاريخيا، تشكل معابر الهرمل في الاراضي المتداخلة بين لبنان وسوريا، بالإضافة الى تلك الموجودة في منطقة عكار، مسارب سهلة لإنسياب البضائع المهربة بين لبنان وسوريا في الإتجاهين. إلا ان اللافت للأمر أن هذا التهريب لم يصب يوماً إلا في مصلحة سوريا وإقتصادها. يتضرر الإقتصاد اللبناني عموماً من التهريب، ولا يستفيد منه إلا بضعة تجار ومن يحميهم ويؤمن لهم الغطاء الأمني والسياسي.

ففي مرحلة وجود الجيش السوري في لبنان كانت هذه المعابر نفسها تستخدم بالإضافة الى تهريب البضائع في تمرير المازوت السوري المدعوم. كانت هذه الشحنات تتوجه بصهاريجها مباشرة الى محطات عرفت خلال تلك المرحلة بتأمين المازوت المهرب وبأسعار أدنى من سعر السوق اللبناني. بعد أزمة سوريا لعبت هذه المعابر دورا كبير في صمود سوريا، ليس فقط بفضل الدعم الذي أمنه حزب الله للنظام عبر إمدادات لوجستية وحتى بشرية دفع بها للمشاركة في معارك النظام بوجه معارضيه، وإنما ايضاً في تأمين كسر الحصار الإقتصادي الذي فرضه عليها قانون قيصر.

أما النتيجة فكانت تهريب المازوت اللبناني المدعوم بأموال المودعين الى سوريا، وكانت هذه المحروقات تنقل بالصهاريج، عبر معابر أطلق عليها اسماء رؤساء العصابات التي يسيطرون عليها، في عقر دار قوى أمر الواقع، والتي إن لم تسهل مهمة هؤلاء، اقله لم تعترضها. ولم يقتصر الأمر على المحروقات، وإنما تخطاه الى الدواء والطحين، وغيرها من المنتجات المدعومة.

تغطية سياسية وأمنية 
لم يتوقف تهريب هذه المنتجات إلى سوريا، إلا عندما توقف دعمها في لبنان، وباتت كلفة تهريبها تفوق سعرها في سوريا. إلا أنه على رغم الجهود الواضحة التي بذلت بعد هذه الفترة لفرض السيطرة الأمنية العسكرية مجددا على "الحدود الفلتانة"، لم يتوقف التهريب عبر معابر الهرمل وراس بعلبك. بل لا يزال بعضها، كتلك الموجودة في عرسال مثلا، تستخدم في تهريب المنتجات المستوردة، من الشوكولا الفاخر، ومساحيق التجميل وغيرها من المنتجات التي ينشط تهريبها في مواسم الأعياد خصوصاً، وتستهدف الطبقة المخملية في سوريا. بينما لا تتوقف المحاولات على المعابر الأكثر سهولة، ولا سيما في منطقة حوش السيد علي والقصر لتمرير شاحنات البضائع، من خضار وفاكهة وغيرها. وعليه تشاهد هذه الشاحنات مباشرة وهي تنقل البضائع من شاحنة سورية الى لبنانية او بالعكس في المناطق المتداخلة، أو خلال توقفها على حاجز للجيش السوري في المنطقة المتداخلة لتفرغ حمولتها على قارعة طريق يقع في الاراضي اللبنانية. بينما لا تتوقف محاولات الجيش لضبط هذه العمليات، من خلال التشييك على كميات البضائع التي تدخل او تخرج في هذه المناطق عبر عوائق حديدية وضعها على اطراف الأراضي المتداخلة، ليجعل من كل عائق  حاجزاً حدودياً.

لا شك أن هذه الإجراءات صعّبت عمليات التهريب، ولكنها كما تظهر شكوى المزارعين وصرختهم المرتفعة من مضاربة المنتجات السورية، لا تقلل من عزيمة المهربين على إيجاد سبل دائمة لإستمرار نشاطهم.

الأمر الذي يضع علامات إستفهام ويثير الشكوك حتى بالنسبة لبعض أداء القوى الشرعية الممسكة بعملية ضبط الحدود حالياً. علماً أن هذه القوى تبدو غير معنية بواحد من أبرز المعابر التي يستخدمها حزب الله في منطقة حوش السيد علي، والذي مرت من خلاله صهاريج المازوت الإيراني الى لبنان فيما سماه حزب الله حينها صهاريج فك الحصار. حيث يشتبه حالياً بإستخدام هذا المعبر أيضا في تمرير كميات الدواء والمنتجات الإيرانية والسورية التي تغزو المجمعات التجارية والصيدليات المعتمدة من قبل حزب الله.

علماً أن هذه الشكوك، كما تؤكد الأوساط المتابعة، تجعل من التهريب منظومة متكاملة. فالمهرب لن يجد سهولة في التحرك ما لم يكن مدعوماً من بيئته أولاً، ولدى هؤلاء المهربين عملاء ووكلاء، يبنون حلقة إقتصادية متكاملة، إذ أن المهرب ليس هو من يسوق، هناك من يتسلم البضاعة ليبيعها في أسواق تنتظر بدورها المنتجات المهربة، التي تتحكم بسعر السوق وتفرض تخفيضه بالنسبة للمنتجات اللبنانية. وعليه لا يمكن ربط الضرر الذي يلحق بالإقتصاد  بأشخاص مهربين، أو تجار يطمعون ببعض الارباح، وإنما بشبكة  تسهل هذه التجارة الموازية، وهي تجارة ولّدتها المعابر المصادرة، وتديرها المافيات سواء أكان ذلك برعاية سياسية وحتى أمنية احياناً.