مشروع موازنة 2024: ما بين الردّ والاسترداد احتمال السقوط وارد!

عراقيل بنيوية لا تزال تعوق التقدم في إخراج موازنة 2024، إما لدى النواب أو لدى الهيئات والجمعيات الاقتصادية والمالية. الأخذ والرد والملاحظات التي يبديها خبراء ومتابعون للشأن المالي والاقتصادي، تضع الموازنة العتيدة عند حافة السقوط، وعودة الدولة الى مربّع الصرف على القاعدة الاثني عشرية التي اتُّبعت لسنوات خلت، والتي تناسب آليّة عملها أهل السلطة والحكم في لبنان، لما تتضمّنه من مساحة وهوامش قانونية تسمح بالتحايل على القوانين وتطويعها لخدمة المصالح السياسية والشخصية، والاستفادة من الثغرات المحاسبية التي تعزز الفساد.

قد تتدحرج أمور الموازنة ومناقشاتها الى مكان يصعب فيه إقرارها في المجلس النيابي، ليفتح الباب أمام إصدارها بمرسوم من الحكومة. وهذا ما يحاول كثيرون الهروب منه، وجعل إقرار موازنة 2024 فرصة لبناء توافق وطني حول الاستراتيجية المالية والاقتصادية للحكومة مستقبلاً في ظل المراقبة اللصيقة التي تمارسها المؤسسات والصناديق الدولية ذات الصلة بشؤون المال والاقتصاد، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي الذي يعتبر أن أولى أولويات هذه الحكومة وغيرها هي إقرار الموازنة والعمل وفق ما تقتضيه أصول القوانين والمحاسبة العمومية.

تؤكد مصادر معنية أن سقوط هذه الموازنة أو تبنّيها رهن أمرين: قناعة المجلس النيابي بعد تعديل كبير يطلبه معظم النواب خصوصاً على بنودها الضريبية والرسوم المستجدة، وأيضاً قناعة لدى الحكومة تثمر موافقة على التعديلات الضريبية خصوصاً التي ستتسبب بتقلص الموارد والعائدات التي تعوّل عليها الحكومة بقوة بسبب حاجتها الملحّة راهناً الى سيولة تعينها على الخروج من المأزق المالي المتفاقم، وتعزز قدرتها على امتصاص أي انعكاسات لحرب غزة على لبنان مباشرة أو مواربة.

عراقيل أخرى أقل خطورة على أهميتها الدستورية والمحاسبية، ستضع عصيّها في دواليب الموازنة، بيد أن أرانب التسويات السياسية قد تساعد المعنيين على القفز فوقها "ويا دار ما دخلك شر" كما عادة أهل السلطة في تمرير المطلوب على حساب القوانين المرعيّة وقواعد الدستور. ليس أول تلك العوائق قطع الحساب الذي يشدد المشرّع على إقراره قبل الموازنة، أما ثانيها فهو تمنع أكثر من ثلثي المجلس عن حضور جلسات تشريع، مؤكدين أن للمجلس النيابي حالياً وظيفة واحدة وفق الدستور هي الشروع بانتخاب رئيس الجمهورية فقط، ولا وظيفة أخرى لغير إنهاء الفراغ الرئاسي

انتقادات كثيرة تطال مشروع موازنة عام 2024 لأسباب أبرزها أنها تتضمّن الكثير من الزيادات الضريبية التي تطال الأفراد والمؤسسات التجارية الصغيرة والمتوسطة الحجم، وعدم مراعاتها معايير العدالة الضريبية، فضلاً عن خلوّها من أي رؤى وتخطيط في سبيل انتظام مالية الدولة العامة، عدم إرفاقها بقانون قطع الحساب، وأسباب أخرى. لذلك ثمة توجّه ينادي بضرورة إسقاط هذا المشروع، إن لم تكن هناك قدرة على تحسينه، وتالياً إقرار موازنة تتضمّن أحكاماً مقبولة بالحد الأدنى وتحترم المبادئ الدستورية المكرّسة.

ما مصير موازنة عام 2024، وماذا عن احتمال رفض المشروع؟

المحامية الدكتورة جوديت التيني توضح لـ"النهار" أنه بعد إنهاء لجنة المال والموازنة في مجلس النواب درس مشروع الموازنة وتعديله، يُعرض المشروع على الهيئة العامة للمجلس النيابي التي تصوّت عليه، ومن الواجب أن تصوّت عليه بنداً بنداً. كما يعود للهيئة العامة أن تردّ المشروع الى الحكومة، إذا ما شاءت ذلك، سنداً إلى المادة 77 من النظام الداخلي لمجلس النواب. ولكن انعقاد الهيئة العامة للمجلس النيابي للتصويت على الموازنة، برأيها قد يصطدم بواقع الفراغ في سدة #رئاسة الجمهورية، وعدم القدرة على عقد جلسة للتشريع، إلا إذا ما اعتبرت الموازنة من عداد ما دُرج على تسميته وممارسته "تشريع الضرورة".

وتشريع الضرورة يعني الاستثناء على القاعدة المكرّسة في المادة 75 من الدستور، الذي يُمارس لمبرّرات الضرورة. فالمادة 74 من الدستور واضحة وتنص على أنه إذا خلت سدة الرئاسة فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون، وتتابع المادة 75 بالنص على أنّ "المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر". فإذا ما اعتبرت الموازنة من عداد ما درج مجلس النواب على ممارسته من "تشريع الضرورة" ستُدعى الهيئة العامة للمجلس النيابي، ولو في ظل خلوّ سدة رئاسة الجمهورية، لبتّ الموازنة بالصيغة التي عدّلتها بها لجنة المال والموازنة.

ولكن في ضوء ما يبرز من مطالبات من نواب، ولا سيما من يعارضون اجتماع الهيئة العامة للمجلس لبتّ الموازنة في ظل الفراغ الرئاسي، ماذا عن حق الحكومة في أن تستردّ مشروع الموازنة؟ تؤكد التيني أنه "لا مانع من تطبيق المادة 103 من النظام الداخلي لمجلس النواب على مشروع الموازنة، وهذه المادة تسمح للحكومة بسحب أي استرداد سائر مشاريع القوانين التي ترسلها الى مجلس النواب ضمن شرطين: الأول: قبل التصويت على المشروع بشكل نهائي في مجلس النواب، والثاني: أن يتم الاسترداد بنفس الشكل أو الصيغة التي تم بها إرسال المشروع الى مجلس النواب أي بموجب مرسوم".

يبدو الاسترداد مفيداً اليوم لكي تعيد الحكومة بإعادة النظر في أرقام الموازنة وصدقية فرضياتها ومبناها (على سعر الصرف)، وفوضى أحكامها، وفي ضوء عدم إرفاقها بقانون قطع الحساب للموازنة المنصرمة، أي موازنة عام 2022.

يشار الى أن فكرة استرداد الحكومة لمشروع الموازنة ولا سيما لدى تغيّر الحكومة وتشكيل حكومة جديدة سبق أن طرحت سابقاً، وحصل ذلك سنة 2000 في ظل حكومة الرئيس رفيق الحريري وسنة 2020 مع تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب وتسلّمها زمام الحكم.

في المحصّلة نحن اليوم أمام واقع متمثل بعدم إقرار الحكومة لمشروع قانون قطع الحساب، وتالياً أَرسلت الحكومة مشروع الموازنة الى المجلس من دون أن ترسل قطع الحساب، وهو ما قد يشكل برأي التيني "سبباً إما لرفض الموازنة أو سبباً لتكريس مخالفة دستورية مرة جديدة تتمثل بإقرار موازنة من دون قطع الحساب. وقد اعتادت الحكومات والمجالس النيابية على مخالفة المادة 87 من الدستور التي تنصّ على وجوب إقرار قانون قطع حساب الموازنة المنصرمة قبل نشر الموازنة الجديدة، وفي الأعوام القليلة الماضية (من 2017 الى 2022) التي تم فيها إقرار ونشر الموازنة من دون أن يسبقها إقرار قطع الحساب، كان يتم إما التغاضي كلياً عن مسألة قطع الحساب أو يُعتمد حلّ استثنائي يتمثل بإحالة الحكومة الى مجلس النواب مشروع قانون "استثنائياً" يسمح بإقرار ونشر الموازنة من دون أن يسبقها إقرار قطع الحساب، ويكتفي مجلس النواب بمنح الحكومة مهلاً إضافية لإنجاز قطع الحساب، غير أن الحكومات لم تتقيّد يوماً بالمهل الممنوحة لها ولم يحاسبها مجلس النواب يوماً على عدم تقيّدها بذلك. (وهذا ما حصل بخصوص القانون رقم 143 تاريخ 31/7/2019 الذي سبق نشر موازنة سنة 2019)، أو تضمين الموازنة نفسها نصّاً كهذا يجيز تخطي موجب إقرار قطع الحساب (مثلاً المادة 65 من قانون موازنة 2017)".

وفي قراره رقم 2 تاريخ 14/5/2018 المتعلق بالطعن بموازنة 2018، أكد المجلس الدستوري أن غياب قطع الحساب هو حالة شاذة ولا بدّ من أن يجري سريعاً ودون تباطؤ الخروج منها ووضع قطع حساب وفق القواعد التي نص عليها الدستور وقانون المحاسبة العمومية لعودة المالية العامة الى الانتظام، ووضع حد لتبذير المال العام وضبط الواردات وتقليص العجز في الموازنة العامة وممارسة رقابة فاعلة على تنفيذ الموازنة.