من الضاحية إلى طهران: نار الحرب الإسرائيلية تتمدّد

في لحظة مفصلية من تطورات الإقليم، اشتعلت نار الحرب بين إسرائيل وإيران على نحو غير معلن رسمياً لكنه مدوٍ على الأرض، بعدما نفّذت إسرائيل موجات من الضربات الدقيقة داخل العمق الإيراني، استهدفت منشآت نووية استراتيجية وقواعد عسكرية ومواقع لصناعة وتطوير الطائرات المسيّرة والصواريخ، وبلغت ذروتها في عمليات اغتيال طاولت قيادات رفيعة من الجيش والحرس الثوري. هذه الضربات لم تكن مجرد رسائل ردعية، بل تؤسس لمعادلة عسكرية جديدة في الصراع الإسرائيلي - الإيراني، عنوانها نقل الحرب إلى قلب إيران نفسها، بعدما طالما دارت في أطرافها ووكلائها.

في هذه اللوحة المتأججة، لا يمكن فصل لبنان عن المشهد العام. فالمعادلات الجيوسياسية لا تعترف بالحدود التقليدية، وما يحدث في طهران أو دمشق أو غزة، له تداعيات مباشرة أو غير مباشرة على بيروت. ويكاد لا يخفى على أحد أن أي هزة في ميزان القوة بين إسرائيل وإيران، سيكون لبنان أحد أبرز ساحات ارتدادها، سواء عبر انفجار جبهة الجنوب أو عبر رسائل نارية كهذه التي وصلت مؤخراً إلى قلب الضاحية الجنوبية، بما تحمله من دلالات استراتيجية.

الضربة الإسرائيلية التي استهدفت الضاحية لم تكن فقط تجاوزاً أمنياً، بل خرقاً مدروساً لكل الخطوط الحمراء التي رسمتها قواعد الاشتباك السابقة. هي ليست مجرد استهداف لموقع أو شخصية، بل إعلان واضح عن نية إسرائيل توسيع هامش عملياتها إلى داخل ما كان يعتبر سابقاً "الخطوط الخلفية" للمقاومة. فبهذه الضربة، أرادت تل أبيب أن تقول إن المنطقة العازلة التي تطالب بها لا تنتهي عند جنوب الليطاني، بل تمتد، حسب منطقها، إلى محيط بيروت الإدارية، بما يعكس تصعيداً غير مسبوق في فهمها لخرائط النفوذ والردع.

هذا التصعيد يتقاطع مع تركيز أميركي مستمر على ملف سلاح "حزب الله" في لبنان، من بوابة حرص واشنطن على ضمان أمن إسرائيل أولاً، ومن بوابة محاولة تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة ثانياً. وتتكشف ملامح هذا الضغط من خلال رسائل متكررة تتلقاها بيروت عبر قنوات دبلوماسية غربية، وأخرى غير مباشرة، تفيد بأن السلاح خارج الدولة أصبح من جديد على رأس قائمة الاهتمامات الأميركية، وهو ما قد يتحول إلى أداة ضغط إضافية على لبنان في أي تسوية إقليمية مقبلة، أو حتى في حال توسيع رقعة الحرب.

الخطير أن إسرائيل لا تنتظر الحرب الشاملة لكي تنفذ ما تعتبره ضربات استباقية أو "عمليات جزائية". فوفق معلومات موثوقة، هناك جهات لبنانية رفيعة سبق وتبلغت من قنوات دولية أن إسرائيل تتجه إلى توسيع هامش عملياتها لتشمل أهدافاً في الداخل اللبناني، من دون نية في الذهاب إلى مواجهة شاملة، بل ضمن استراتيجية "الحرب دون حرب"، التي تقوم على الضربات المتفرقة، المكثفة والنوعية، لفرض معادلة ردع جديدة وكسر الإرادة الدفاعية لدى الطرف الآخر.

كل هذه المؤشرات تنذر بأن لبنان قد يُدفع إلى أتون مواجهة إقليمية، من دون أن يكون قراره الذاتي قد نضج لذلك، ومن دون أن تتوافر لديه مقومات الحماية. والمقلق أن هناك من يراهن على استغلال اللحظة، في ظل التصدّع الداخلي، والأزمة الاقتصادية، والتخبط المؤسساتي، لتوريط لبنان قسراً في حرب هو بأمسّ الحاجة إلى تجنّبها.

أمام هذا المشهد، تصبح الأولوية القصوى تحييد لبنان، ككيان ومؤسسات وشعب، عن موجة الجنون الإقليمي. ذلك لا يتحقق فقط عبر المواقف الرسمية أو الدعوات الدبلوماسية، بل يتطلب إرادة سياسية داخلية موحّدة، تعي أن التورط في صراعات الآخرين قد يدمّر ما تبقى من الدولة، ويعيد إنتاج سيناريوات الكارثة التي عاشها البلد مراراً في العقود الماضية وفي الأشهر القليلة الأخيرة. فالمعادلة ليست بسيطة: إما أن يكون لبنان ساحة لتصفية الحسابات، أو ساحة مقاومة ذكية لتلك الحسابات، بالحفاظ على السلم الداخلي، والإمساك بالقرار الوطني، والابتعاد عن الانجرار الأعمى نحو حرب لا مصلحة له فيها، لا الآن ولا لاحقاً.