من لبنان إلى أوروبا: جسر العبور من الفوضى إلى الدولة

في لحظة لبنانية حرجة تتسم بضغوط كبيرة جدًا وتسارع الأحداث والتطورات من حولنا، تعود أهمية تفعيل خطوط التواصل مع دول الاتحاد الأوروبي إلى واجهة الأولويات الوطنية، لا كخيار دبلوماسي عابر، بل كضرورة وجودية في سبيل إعادة إنتاج الدولة اللبنانية بشروطها الطبيعية: سلطة واحدة، قرار موحّد، ومؤسسات عاملة بلا ازدواجية أو شراكة قسرية. فلبنان يقف اليوم على حافة تحوّل خطير، يلامس فيه خطر الانهيار حدود الوجود، في ظلّ دور عربي متقدم تقوده المملكة العربية السعودية، يهدف إلى حماية لبنان من التحوّل مجدداً إلى ساحة لتصفية الحسابات أو تدفيعه أثمانًا خارجية، ويعمل بصمت على تأمين عبوره من مرحلة إلى أخرى، وسط تجاوب داخلي ملموس، لا سيما على المستوى القيادي الرسمي.

من هنا، اكتسبت زيارة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى قبرص أبعادًا سياسية واستراتيجية تتخطّى البروتوكول إلى عمق الخيارات الوطنية المطلوبة. فلبنان لا يمدّ يده إلى الاتحاد الأوروبي من موقع المتسوّل أو التابع، بل كشريك متضرّر يطلب الدعم في ملفات عادلة تبدأ من الحق السيادي في بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، وخصوصًا في الجنوب، مرورًا بإعادة النهوض الاقتصادي والمالي عبر مشاريع استثمارية أوروبية تطال القطاعات المنتجة والخدماتية، ولا تنتهي عند حدود توفير مظلة حماية دولية للبنان في مرحلة الانتقال الصعبة التي يمر بها.

قبرص، الدولة الأقرب إلى لبنان جغرافيًا وثقافيًا، والعضو الفاعل في الاتحاد الأوروبي، تشكّل البوابة الواقعية لعبور لبنان إلى قلب القرار الأوروبي. وقد جاءت الزيارة الرئاسية إلى نيقوسيا بمضامين واضحة: أولها تأكيد الانفتاح اللبناني على الشراكة الأوروبية الاستراتيجية، وثانيها تبنّي الطرح القبرصي بضم لبنان إلى اجتماعات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يشكّل سابقة دبلوماسية ذات طابع إنقاذي، لا سيما أن قبرص تستعد لتسلّم رئاسة الاتحاد في العام المقبل، ما يعزز فرص تحويل لبنان إلى بند دائم على طاولة القرار الأوروبي.

إن طرح الانضمام الجزئي أو التشاركي للبنان في صيغة تعاون مع الاتحاد الأوروبي يحمل أبعادًا تتجاوز الدعم المالي إلى مستويات الحماية السياسية والدبلوماسية، في ظل محاولات بعض الأطراف فرض شراكة غير شرعية في مسائل الأمن القومي وقرار السلم والحرب، بما يهدّد وحدة المؤسسات ويقوّض مفهوم الدولة. فلبنان، الذي أرهقته الفوضى، يحتاج إلى شريك دولي وازن يوفّر له الغطاء اللازم للعبور إلى الدولة الواحدة، لا الدويلات المتنازعة، وإلى شرعية موحّدة تتخذ قراراتها المصيرية في المؤسسات الدستورية، لا في الميادين أو وراء الحدود.

ولا يمكن إغفال البُعد الاقتصادي للانفتاح على أوروبا، في وقت يرزح فيه لبنان تحت عبء انهيار مالي غير مسبوق. فالاتحاد الأوروبي قادر، إن توفّرت الإرادة اللبنانية، على المساهمة في مشاريع إعادة إعمار البنى التحتية، وتطوير قطاعي الطاقة والنقل، وخلق فرص تنموية مستدامة في الريف والمدينة، عبر آليات تمويل أوروبية ميسّرة وخطط تعاون طويلة الأمد.

أما في البعد السيادي، فتطرح مسألة ترسيم الحدود البحرية مع قبرص نفسها كأولوية قابلة للإنجاز، وتشكّل مدخلًا لاستكمال عملية تثبيت الحقوق اللبنانية في مياهها الإقليمية، بالتوازي مع حماية الثروة النفطية والغازية، ومنع أي تداخل أو استغلال خارجي لها. فالتفاهم مع قبرص في هذا المجال يرسّخ الأمن البحري للبنان، ويمنع استغلال صعوباته الداخلية في الصراعات الإقليمية الكبرى.

في النهاية، فإن إعادة تفعيل لبنان لعلاقاته مع الاتحاد الأوروبي ليست ترفًا دبلوماسيًا، بل خطوة استراتيجية لبناء جدار دعم خارجي يساند الداخل في عبوره الصعب من الفوضى إلى الدولة، من الازدواجية إلى الوضوح، ومن الاصطفاف إلى السيادة الكاملة. أوروبا، بما تمثّله من وزن سياسي واقتصادي، قادرة على أن تكون شريكًا في إنقاذ لبنان، لا من الخارج فقط، بل من الداخل أيضًا، إذا عرف اللبنانيون كيف يلتقطون الفرصة التاريخية ويصوغون مشروع الدولة من جديد، بلا شركاء في القرار، ولا محاصصة في السيادة، ولا مساومة على الشرعية.