ميانمار قصة الديمقراطية الضالة!

بخطوة الانقلاب التي نفّذها الجنرالات واستيلائهم على السلطة، يُحكم الجيش قبضته من جديد على البلاد في مشهد يذكّر بعقود طويلة من الحكم الديكتاتوري الصارم. على الرغم من أن بيان الجيش يؤكد ان خطوته هذه لا تتعارض والديمقراطية ويَعِدُ بإجراء انتخابات نزيهة خلال عام؛ إلا أن ذلك لم يوقف سيل التنديد والاستنكار الدوليين في ظل الترقب وتدارس الخطوات للتعامل مع هذا الوضع الجديد في آسيا.

بانتظار تداعيات الانقلاب داخليًّا وجيوسياسيًّا وانعكاسات ذلك على الشارع في ميانمار وعلى أقلية الروهينغا المسلمة تحديدًا، نلقي نظرة على الجنرال مينغ أونغ هلينغ، الذي يقبع تحت عقوبات واشنطن على خلفية الانتهاكات بحق الروهينغا وقيامه بجرائم حرب ضد هذه الأقلية المسلمة، فهو الذي هندس الانقلاب والذي، حسب خبراء، نتيجة حركة ما داخل الجيش ربما كانت سببًا في الانقلاب، خصوصًا وان هلينغ كان من المفترض بأن يتقاعد بغضون 6 أشهر.

مشهد قديم جديد في ميانمار، حيث عاد الجنرالات ليديروا دفّة الحكم في البلاد لتصبح مجددًا تحت حكم العسكر الذي حكم البلاد لمدة نصف قرن من الزمن، منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني في الرابع من كانون الثاني/يناير 1948.

واستمرّ حكم الجنرالات من خلال سلسلة انقلابات عسكرية منذ عام 1962 حتى بدأت الضغوط الدولية، مطالبةً ميانمار تكريس مناخ الديمقراطية وفرض عودة الحكم المدني وبالتالي انصاعت، بسبب هذه العقوبات، وفتحت حوارًا مع أونغ سان سو تشي إبنة الزعيم العسكري الجنرال أونغ سان الذي حكم البلاد.

وفي العام 1988، عادت إلى بلادها قادمةً من بريطانيا في خضم انتفاضة ضد المجلس العسكري الحاكم، حيث سُمح لها بتأسيس الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية لكن سرعان ما وضعتها السلطات تحت الإقامة الجبرية في منزلها لمدة تجاوزت الـ 15 عامًا وبعدها عادت لتسلّم السلطة. علمًا أن الأعوام الأولى لسو تشي في السلطة شهدت حملة شنّها الجيش على أقلية الروهينغا المسلمة في إقليم راخين وهو ما أثار حفيظة المجتمع الدولي الذي اتهم حكومتها بالقيام بأعمال إبادة ضد هذه الأقلية.

إقليميّا، تشكل ميانمار مكانة إستراتيجية وجيوسياسية أساسية بالنسبة للصين ومبادرتها المعروفة بحزام واحد وطريق واحد، حيث ستكون ميانمار دولة أساسية في هذه الخطة، نظرًا للممرات المائية والبرية وتعوّل الحكومة الصينية كثيرًا عليها خصوصًا في ظل حكم العسكر.

واستطرادًا لا بد من الإشارة إلى أن ما حدث يوم الأربعاء الأسود 6 كانون الثاني/يناير 2021 واقتحام مبنى الكابيتول في واشنطن، قبيل أسبوعين من تنصيب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، تاريخ سيبقى محفورًا في ذاكرة الشعوب تسبب بفقدان الثقة بأميركا مهد الديمقراطيات في العالم. لذلك أحداث ميانمار توقف عندها الرأي العام العالمي لما تشكّله من ورقة ضغط على الصين في ما يتعلّق بـ تايوان وهونغ كونغ وداخل الصين في تلك الحكومات.

كذلك ستشكل أحداث ميانمار ورقة ضغط على الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي ما لبث أن حط رحاله في البيت الأبيض، حتى انهالت عليه استحقاقات تخللتها منعرجات في مناطق صعبة سواء في منطقة الشرق الأوسط ام في منطقة آسيا المحيط الهادئ التي تشكل الهاجس الأكبر لإدارته في ما يتعلّق بإعادة هيبة أميركا إلى تلك المنطقة من جهة، وكسب ثقة حلفائها القدامى مثل كوريا الجنوبية واليابان وسواها من جهة أخرى، سعيًا منها لتثبيت أقدامها لمجابهة تمدّد التنين الصيني فيها.

ومن هنا نفهم لماذا فعّلت الولايات المتحدة ما يعرف بالرباعية الأميركية المتمثلة بأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والهند، مطالبةً إياها ان تلعب دورها الإقليمي لتقف سدًّا منيعًا في مواجهة الصين ونزعتها التمددية. حيث باتت أميركا تعي وتدرك وتتيقن مدى قوة الصين الإقتصادية والعسكرية والتي تتهدد مكانة أميركا الأولى وهيمنتها على هذه المعمورة.

بالعودة إلى تداعيات الانقلاب في ميانمار، هناك اعتقاد سائد بأن دول الآسيان، فضلاً عن نمور الآسيان عمومًا وهي الرابطة التي كانت قد دعمت الحكم العسكري في ميانمار وتجنّبت فرض العقوبات عليها، حتى في خلال فترة حكم العسكر هناك والضغوط الإقتصادية الجمّة على حكومة يانغون في ذلك الحين. اذ يُتوقع ان تنتهج الصين دورًا مشابهًا لنمور الآسيان لجهة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة.

بمعنى اذا كان الجيش في ميانمار يحق له، وفق المادة 418 من الدستور، تسلّم زمام السلطة في حالات الطوارئ لمدة عام واعتقال شو تشي وكبار القادة ووضعهم قيد الإقامة الجبرية، ومن ثم العودة للانتخابات والحفاظ على حياة قادة الأحزاب ضمن مناطق اعتقالهم الجبرية حينها يمكن القول أن الأمور ستتطلب بعض الوقت، لأن الظروف الدولية متقلّبة ومصحوبة بخلل بالتوازن الإقليمي للقوى الإقليمية وكذلك التوازن العالمي. لذلك قد تتطلّب المنطقة بعض الوقت حتى تتبلور كيفية تعاطي القوى العسكرية الحاكمة في ميانمار لجهة إدارة شؤون البلاد وإذا ما كانت ستشهد تظاهرات معادية ما ينسحب حكمًا على موضوع حقوق الإنسان والاقلية المسلمة للروهينغا التي تعرّضت للابادة ذات يوم.

إذ يقول مطلعون عن كثب على الملف ان ميانمار ذات الأغلبية البوذبية ستشهد تغيرًا جذريًّا في سياسة الجيش كما بالنسبة لسياسة تسو تشي وحزبها التي كانت أقرب في موقفها إلى الجيش لاعتبارات الأغلبية الديموغرافية وبالتالي الأقلية المسلمة في إقليم راخان كانت وحدها من تتلقى الضربات الموجعة من قبل قائد الجيش الموضوع على قائمة الإرهاب للولايات المتحدة وبالتالي ذلك سيؤثر على تلك الأقلية لأن الحكومة العسكرية ستقوم بقمع كل من يناهض سياستها وحكمها خلال العام الحالي.

ما يدعو للتساؤل هنا هو كيف سيتم مواكبة هذا الانقلاب بعد قيام الجيش بقطع الإنترنت وتعطيل منصات التواصل الاجتماعي كافة ومنع الصحافيين من الدخول، بحيث لا يُسمح لأحد بالذهاب إلى الإقليم المضطرب، لذلك سيتم الاعتماد فقط على شهود العيان والمهجّرين قسرًا الذين سينزحون إلى بنغلادش وتايلاندا وماليزيا وهذه إحدى قصص المأساة التي تعاني منها الاقليات المسلمة. وهنا تكمن أهمية الأحداث وتداعياتها على هذه المنطقة التي ستشهد بالتأكيد إعادة إنتاج الراديكالية والإرهاب واستغلال هذه الطبقات الفقيرة لهذه الأقليات لمآرب سياسية وللقيام بأعمال تخريبية في المستقبل.

في الختام، لطالما اعتمد الغرب سياسة المعايير المزدوجة في التعامل مع ملفات حقوق الإنسان لذلك عندما يفتح ملف ميانمار يتناسون ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط من ليبيا والعراق وسوريا واليمن. لأن الغرب يحمل راية حماية الديمقراطية وصونها ولكنها تبقى أداة من أدوات الاستثمار السياسي في الضغط على الصين.

لذلك الخلاف الحاصل هو صراع مصالح وليس دفاعًا عن حقوق الإنسان ومن يريد ذلك فليبدأ داخل دولته وليعترف ان هناك ارهابًا داخل بلاده قبل ان يصدّره إلى دول أخرى بحجة الديمقراطية الضالة!