ناقوس الخطر: انتشار حالة الفقر والضعف في لبنان

تسبّب الانهيار الاقتصادي في لبنان بعواقب على قطاعات اقتصادية رئيسية قد لا يكون من رجعة عنها. فقد انزلقت البلاد نحو انهيار اقتصاديّ سريع ومربكٍ، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد إلى أدنى مستوياته منذ 20 عاماً، وذلك في غضون أقلّ من سنتين. وشهدت الأُسر المعيشية والأفراد من مختلف الفئات العمرية والدخل انخفاضاً حادّاً في القوة الشرائية والرفاه والفرص، حيث أدّت الأزمة المالية الخانقة إلى انخفاض قيمة العملة المحلية بنسبة تجاوزت 90 في المئة، والى نقص حادّ في السلع الأساسية، والى الانهيار في تقديم الخدمات العامة. ووفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية، ارتفع الضعف في الدخل من 51 في المئة إلى 75 في المئة، بينما تخطّى الضَّعف الشديد في الدخل الضِّعفين ليصل الى 32 في المئة.

تسبّب امتناع الحكومة اللبنانية المستمرّ عن وضع البلاد على طريق الانتعاش بحالة كارثية. فقد رأى البنك الدولي أنّ عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة أمرٌ متعمّد، ولا سيّما أنّ أيّ تدخّلات لوقف التدهور الاقتصادي كانت ستترتّب عليها خسائر مالية كبيرة في صفوف المؤسّسات والأفراد أصحاب النفوذ. ونتيجة لذلك، كان عبء الأزمة غير متوازن إلى حدّ كبير، حيث ألقى بثقله الأكبر على من هم فقراء أو من كانوا أصلاً يعانون من نقاط ضعف في دورة الحياة. وفي ظلّ نظام الحماية الاجتماعية المُعتلّ، أصبحت الرعاية الصحّية والتعليم والكهرباء والمياه النظيفة والسكن اللائق والنقل والوظائف اللائقة متاحة فقط لعدد قليل من الناس.

تفاقمت أزمة الثقة نتيجة الأزمة الحادّة وامتناع صانعي السياسات عن اتخاذ الإجراءات اللازمة، ما تسبّب برحيل جماعي في صفوف الطلاب والعاملين والمستثمرين، ممّا يُنبئ بتراجع طويل الأجل في رأس المال البشريّ، وضعف احتمالات التعافي يوماً بعد يوم. وتشير تقديرات البنك الدولي الى أنّ لبنان قد يحتاج إلى ما بين 12 و19 عاماً للتعافي والعودة الى الناتج المحلّي الإجمالي للفرد ما قبل الأزمة.

كي يخرج لبنان من فخّ الفقر اليوم، لا بدّ من توسيع نطاق المساعدة الاجتماعية عاجلاً وإصلاح نظام الحماية الاجتماعية حرصاً على عدم وقوع الأجيال القادمة وضياعها في دائرة الفقر المتوارث بين الأجيال. غير أنّ ذلك يتطلب استقراراً اقتصادياً وتعبئة الموارد الكافية، الأمر الذي يتطلب بدوره استعادة الثقة الضرورية بمؤسّسات الدولة واقتصادها؛ وهذا الإنجاز البالغ الأهمّية لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال معالجة أزمة شرعية الحكومة اللبنانية.

 

حالة الفقر والضعف في لبنان
ضربت حالة الفقر الأسرَ المعيشية بطريقة حادّة في لبنان في العامين الماضيين. ووفقاً لتقييم حديث أجرته الإسكوا، تبيّن أن "معدّل الفقر في لبنان تضاعف من 42 في المئة في عام 2019 إلى 82 في المئة من إجمالي السكان في عام 2021، مع وجود ما يقرب من 4 ملايين شخص يعيشون في فقر متعدّد الأبعاد. وهم يمثلون حوالي مليون أسرة معيشية، بينها 77 في المئة، أو ما يقرب من 745 ألف أسرة معيشية لبنانية". ويساعد تقرير الإسكوا في تأكيد انتشار الحرمان الذي تعاني منه الأسر المعيشية في جميع أنحاء لبنان عندما يتعلق الأمر بالوصول إلى الموارد الحيوية مثل الكهرباء والمياه والتعليم والصحّة والإسكان، من بين أمور أخرى.

وتُظهر دراسات أخرى أيضاً حول الوصول إلى الموارد التي تُعدّ أساسية لتأمين حياة كريمة الآثار المترابطة للأزمات المتعدّدة في البلاد. فقد أكّد تقريرٌ صدرَ عام 2021 عن رابطة المتطوّعين في الخدمة الدولية لتقييم الأضرار والاحتياجات في قطاع التعليم بنحو سريع، أن "جودة التعلّم في المدارس قد تراجعت وأنّ الوصول إلى التعلّم الحضوري والتعلّم عن بعد يصطدم بمشاكل مثل النقل والكهرباء".

كان النقص في المحروقات – لتأمين الكهرباء والنقل – وفي السلع الأساسية الأخرى مأساوياً في عام 2021، حيث انخفضت إمدادات الطاقة من شركة كهرباء لبنان إلى أقل من ساعتين يومياً في جميع أنحاء البلاد، فيما أدّى ارتفاع أسعار الديزل بنحو 15 ضعفاً في الأشهر العشرة حتى تشرين الأول (أكتوبر) 2021 – من 17.360 ليرة لبنانية إلى 274.000 ليرة لبنانية للعشرين لتراً – الى تأمين الكهرباء من مصادر خاصّة بديلة عجزت معظم الأسر المعيشية والشركات ومقدّمي الخدمات عن تحمّل مصاريفها. وقد تضرّر قطاع الرعاية الصحّية على نحو خاصّ. فعلاوةً على نقص الكهرباء والمحروقات، تسبّب النقص الكبير في الأدوية والإمدادات الطبّية والموظفين بجعل "بعض المستشفيات تعمل بنسبة 50 في المئة". وهي ظروف تعرّض للخطر جميع السكّان، ولا سيّما الفئات الضعيفة، بما في ذلك الأشخاص ذوو الإعاقة ونحو 450 ألف شخص ممّن يعانون من أمراض مزمنة.

وحتى مع استمرار بعض الخدمات الطبّية، اضطرّت الأسر المعيشية، بسبب التضخم الحاد في الأسعار الذي قُدّر بأكثر من 468 في المئة بين عام 2018 وأيلول/ سبتمبر 2021، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بنحو 18 ضعفاً، لاتخاذ قرارات صعبة في تحديد أولويات الإنفاق على الاحتياجات الحيوية. وأظهرت دراسات استقصائية صغيرة، مثل تلك التي أجريت مع الأسر المعيشية التي تستفيد من منحة اليونيسف النقدية "حدّي" والمخصّصة للأطفال، أن 76 في المئة من المستجوبين أجّلوا زيارات الرعاية الصحّية في الأشهر الستة الماضية، فيما خفض 93 في المئة منهم كمّية الطعام أو عدد الوجبات الخاصّة بأطفالهم. وأشارت دراسات استقصائية أخرى إلى أنّ ما يقرب من 60 في المئة من الأسر المعيشية اللبنانية اضطرّت أخيراً لشراء الطعام عن طريق الائتمان أو اقتراض المال، وأن أكثر من ثلث الأطفال يفوّتون وجبات الطعام بانتظام. واضطرّت أكثر من أسرة معيشية واحدة من أصل كلّ سبع أسر معيشية للتوقف كلياً عن تعليم أطفالها، وأرسلت أسرة معيشية واحدة من أصل كل عشر أسر معيشية أطفالها للعمل، مما يُبرز عدم وجود الحماية الاجتماعية الكافية.

 

انهيار القطاعات الحسّاسة
يهدّد التدهور المستمرّ في الاقتصاد الكلي وفي الأوضاع المالية اليوم بتوقّف تقديم الخدمات بشكل أكبر وبتكلفة اجتماعية كارثية ناتجة عن التدهور الطويل الأجل في الصحّة والتعليم وفرص الأجيال القادمة، مما سيدعّم من عملية الارتفاع الحاد في الفقر النقدي والفقر المتعدّد الأبعاد. وأدّى الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات بعد الرفع الكامل للدعم، قبل الشروع في برنامج للمساعدة الاجتماعية أو حتى توسيع نطاقه، إلى ترك الأسر المعيشية بدون كهرباء، مع تعرّضها لخطر فقدان الوصول إلى المياه الصالحة للشرب وعدم القدرة على تحمّل تكاليف الرعاية الصحّية أو إرسال أطفالها الى المدارس العامّة.

يتعرّض أكثر من ثلثي السكّان للحرمان من المياه الصالحة للشرب والصرف الصحّي بسبب نقص الطاقة والمحروقات اللازمة لتشغيل أنظمة المياه العامّة. وتُقدّر تكلفة توفير المياه من المصادر البديلة أو من المورّدين من القطاع الخاصّ بما يقرب من ضعف الحدّ الأدنى للأجور. وأصبحت سلامة الأغذية أيضاً مصدر قلق، حيث تمّ الإبلاغ عن زيادة حالات التسمّم الغذائي بسبب النقص في التخزين والتبريد المناسبَين. وفيما تغيب البيانات الدقيقة عن تلك الحالات، أفادت بعض المستشفيات أن حوالي خمس حالات طارئة في اليوم تطلّبت العلاج في شهر آب/ أغسطس، وهي الفترة التي كان فيها القطاع الصحّي يعاني أيضاً من نقص حادّ في الطاقة والأدوية والإمدادات الطبّية، بالإضافة إلى حالات الاستشفاء المتعلقة بجائحة COVID 19.

في قطاع التعليم، تجاوزت التكلفة الشهرية للوصول إلى المدرسة 1.5 مرّة الحد الأدنى للأجور، أو 900 ألف ليرة لبنانية، وفقًا لمسوح ميدانية أجرتها اليونيسف في جميع أنحاء لبنان. ولا يمثّل الوصول إلى المدرسة سوى جزء بسيط من التكاليف المتعلقة بالتعليم ولا سيّما أن الكتب والأدوات التعليمية تُسعّر وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء البالغ حوالي 21.000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي (تشرين الثاني/ نوفمبر 2021) وتتجاوز التكاليف الشهرية ضعف الحدّ الأدنى للأجور. كما تؤثر تكلفة النقل الباهظة أيضاً على العمّال الذين بقي دخلهم على حاله في العامين الماضيين، بينهم أساتذة القطاع العام، والعاملون في الرعاية الصحّية والاختصاصيون الاجتماعيون، الى جانب آخرين. أمّا عمّال القطاع الخاصّ، ولا سيّما أولئك الذين يعملون بشكل غير رسمي والذين لا يتمتعون بالحقوق والمزايا أو بجزء صغير منها ¬– حوالي 55 في المئة من القوة العاملة – فحالُهم أسوأ بكثير.

قبل رفع الدعم عن المحروقات، قدّرت منظمة العمل الدولية أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأفراد يعيشون في حالة ضعف الدخل، أي بأقلّ من 706.050 ليرة لبنانية في الشهر، وهي تقريباً كلفة 40 لتراً أو أكثر بقليل من البنزين. وفي هذه الأثناء، ما لم تُنفّذ إصلاحات واسعة النطاق لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، من المتوقع أن يستمرّ التضخم في خفض القوة الشرائية للعمّال، حتى في ظلّ عملية تصحيح الأجور التي ستُترجم في ارتفاع المعروض النقدي وأسعار السلع والخدمات، سيسوء وضع الذين يعانون من مواطن الضعف في دورة الحياة التي تمنعهم من توليد الدخل.

خلّفت الصدمات التي أحدثها الانهيار الاقتصادي في البلاد آثاراً غير متناسبة على الفئات الضعيفة التي أصبحت أكثر عرضةً، بسبب نهجٍ من عدم المساواة والافتقار إلى مخططات الحماية الاجتماعية. وحتى قبل الأزمة، كان أكثر من ثلثي الأشخاص ذوي الإعاقة في خُمس الدخل الأدنى من السكان. وبغياب قنوات الدعم المالي الرسمية، والخسائر في القنوات غير الرسمية، فإن الأشخاص ذوي الإعاقة والفئات الضعيفة الأخرى، بما في ذلك كبار السنّ والنساء والرجال الذين يقدّمون الرعاية الأساسية للأطفال أو أفراد الأسرة المعالون، هم في حاجة ماسّة إلى المساعدة الاجتماعية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. ولتسليط الضوء على عواقب التأثير المزدوج للأزمة في البلاد على عدم المساواة القائمة بين الجنسين في اقتصاد البلاد، بيّن تقييم أجراه البنك الدولي وهيئة الأمم المتحدة للمرأة أخيراً في لبنان أن غالبية النساء عاطلات من العمل، مع 75% من النساء غير النشيطات اقتصادياً.

وبناءً على ذلك، ومع إفلاس الدولة والتراجع الحادّ في البنية التحتية، بما فيها البنية التحتية الخاصّة بالقطاع المالي التي يعوّل عليها النشاط الاقتصادي والمساعدة الاجتماعية، يلوح في الأفق خطر الانهيار.

في الأشهر الأخيرة، عندما كانت أزمة الكهرباء في أسوأ حالاتها، تمّ تقنين الطاقة حتى في أجهزة الصراف الآلي لبعض البنوك في جميع أنحاء البلاد، وهذا ما جعل من الصعب على العديد من الشركات العمل وحال دون وصول المستفيدين الى المساعدات المخصّصة لهم.

تُعدّ التحويلات النقدية الداخلية والخارجية، سواء من العائلة أو الأصدقاء أو المنظمات الدولية، ضرورية لبقاء العديد من الأسر المعيشية والأفراد الذين لا يملكون وسائل دعم أخرى. وتؤدّي تدفقات التحويلات والمساعدات الدولية دوراً حيوياً في تمويل الواردات والتخفيف من انهيار قيمة العملة، ولا سيّما أنها بلغت ما يقرب من 45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بالأسعار الجارية [1] في عام 2020. فقد قُدّرت تدفقات التحويلات الواردة بقيمة 6.9 مليارات دولار أميركي في عام 2020 بينما بلغت المساعدات الدولية 1.7 مليار دولار أميركي.

 

انكسر العقد الاجتماعيّ: يجب إنقاذ الاقتصاد
أمام الانخفاض الحاد في القوّة الشرائية واحتدام الصعوبات، يتزايد عدد العمّال المهرة من القطاعات الرئيسية الذين يغادرون البلاد بحثاً عن فرص أفضل. تشير التقديرات إلى أن الآلاف من العاملين الصحّيين والمعلمين وغيرهم من المهنيين قد هاجروا في السنوات الأخيرة، وقد تسارعت هذه النزعة بعد انفجار مرفأ بيروت. وإذ لا توجد أرقام دقيقة للهجرة، أشارت العديد من النقابات، بينها نقابات الأطباء والممرّضين/الممرّضات، إلى أن آلاف العمّال غادروا البلاد منذ عام 2019 حتى الآن. علاوةً على ذلك، بيّن مسح الشباب العربي لعام 2020 أيضاً أنّ حوالي 77% من الشباب اللبنانيين يهدفون إلى الهجرة من لبنان، ما يُنبئ بتراجع طويل الأمد في تنمية رأس المال البشري وبارتفاع كبير في معدّلات الفقر بين الأجيال.

إنّ استمرار امتناع الحكومة اللبنانية عن اتخاذ إجراءات تصحيحية لوقف حالة الكساد المتدهور بسرعة في لبنان واستعادة الثقة بالدولة من خلال تنفيذ إصلاحات تحمي من العوامل الكامنة وراء أزمة البلاد، مثل الفساد وسوء الإدارة وإفلاس المؤسّسات العامة، من شأنه أن يقوّض ثقة الناس بركائز الدولة الأساسية واقتصادها والعقد الاجتماعي للبلاد.

أمّا الأسس المطلوبة للحفاظ على الدولة الحديثة والفاعلة، وكلها تعتمد بشكل أساسي على الثقة والمصداقية، فآخذة في التدهور إلى ما يقرب من نقطة الانهيار.

يُبيّن الانهيار السريع للاقتصاد اللبناني بشكل جليّ الحاجة الملحّة لتثبيت الوضع الاقتصادي والمالي لضمان حماية الواردات والخدمات الحيوية التي تشكّل شريان الحياة الرئيسي لاقتصاد متأزّم. ولمواجهة العواقب الإنسانية الوخيمة الناجمة عن انتشار الفقر المتعدّد الأبعاد، يجب أن تتزامن أيّ تدابير تهدف لتحقيق الاستقرار مع استراتيجيات شاملة ومستدامة للحماية الاجتماعية وتقديم المساعدة العاجلة للفئات الضعيفة.

لكن وحده الإصلاح المؤسّسي الفوري والموثوق، والشروع في مسار التعافي الذي يتمحور حول الناس، من شأنه إنعاش الاقتصاد اللبناني. لا يمكن إنقاذ لبنان من الانحدار الى حالة طوارئ معقدة لا رجوع عنها إلّا من خلال إحداث تغيير جذري في طبيعة الكساد المتعمّد المتمثّل باستمرار قيادة البلاد في الامتناع عن اتخاذ الإجراءات الحاسمة لتجنّب الأسوأ وحماية الفئات الأضعف وقيادة البلاد نحو التعافي.

[1] قُدّر الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في عام 2020 بنحو 19.01 مليار دولار أميركي في عام 2020 (صندوق النقد الدولي).

* تعاون الباحث الأوّل في المركز اللبناني للدراسات، فادي نيكولاس نصّار، مع سارة هيغ ووليد الصايغ من اليونيسف لوضع تحليلٍ عن حالة الفقرِ المتفشّي والضعف في لبنان، والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية للأزمة التي تشهد تدهوراً سريعاً في البلاد، بهدف مساعدة المقرّر الخاصّ للأمم المتحدة المعنيّ بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، في زيارته الرسمية للبنان.