هل سيرى مشروع التغطية الصحيّة الشاملة النور قريباً؟

لمّا كانت الحقبة الزمنية الممتدة منذ العام 2019 حتّى اليوم موصوفةً بأنّها الأحلك في تاريخ لبنان الحديث، ولم تكن سوى المحصلة الحتمية للتعثّر الاستثنائي في نُظم الحماية الاجتماعية، المتزامن مع النهب والهدر المستمرين للمال العام، وتراكم التعثر والفشل في إطار الحلول وطرح السياسات المُعالجة، برزت الحاجة إلى خلق شبكات دعمٍ اجتماعيةٍ ومنحٍ تمويلية، لتدارك وطأة الإفقار القسري لغالبية الفئات والطبقات الاقتصادية وتعاظم هشاشتها تباعًا، وتوفير إغاثةٍ سريعةٍ للعدد المتزايد من الأسر المحتاجة في خضمّ الاستفحال الطرديّ للأزمات متعدّدة الأبعاد.

وفي وقتٍ تتصاعد فيه تكاليف الرعاية الصحية وتزداد الأعباء على المستشفيات والمواطنين على حدٍّ سواء، يبرز مشروع قانون التغطية الصحية الشاملة كأحد أبرز الوعود الإصلاحيّة المطروحة على بساط البحث داخل مجلس النوّاب. فقد بات توفير تغطيةٍ صحيّةٍ شاملة إحدى الأولويّات الملحّة في بلدٍ يرزح أكثر من نصف سكانه تحت وطأة الإفقار القسريّ، فيما يكافح الباقون لتأمين تكاليف الطبابة والاستشفاء. وقد أسفرت الاجتماعات النيابية المتكررة عن بلورة مشروع قانونٍ جديدٍ للتغطية الصحيّة الشاملة الإلزاميّة، عُرضت مسودّته أخيرًا على رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، بعد تجاذباتٍ سياسيّةٍ مستمرّة، و21 جلسة عمل ودراساتٍ وإحصاءاتٍ ولقاءاتٍ مع خبراء محلّيين ودوليّين. ومن المتوقّع أن يُناقَش في اللجان المشتركة تمهيدًا لإقراره. لكن ما هو هذا القانون؟ ولماذا يعلّق عليه الكثيرون آمالًا كبيرة؟ وهل يشكّل فعلًا نقلةً نوعيّةً في مسار الإصلاح الصحي والاجتماعي؟

تعريف التغطية الصحيّة الشاملة
في الفقرة الأولى من مسودّة القانون، يُعرَّف نظام التغطية الصحيّة الشاملة (المعروف بمشروع البطاقة الصحيّة) على أنّه إطارٌ يهدف إلى تأمين العناية الصحيّة والاستشفاء والخدمات الوقائية للجميع، من دون تحميل الأفراد أعباءً ماليّة ترهقهم. ويمنح المشروع هيئةً إداريّةً وماليّةً خاصّة (هيئة إدارة نظام التغطية الصحيّة الشاملة)، تُشرف على التمويل وإبرام العقود وضبط الإنفاق، مع تأكيد استقلاليّتها تحت إشراف وزير الصحّة العامّة ووزير المالية. ويستفيد من هذا النظام كلّ من لا يشمله نظامٌ صحّيٌ إلزاميٌ قائم، على أن تسدِّد فئاتٌ معيّنة رسومًا محدّدة تُعرف بـ"بدل البطاقة الصحيّة"، مع إمكانيّة تغطية الرسوم للفئات الأكثر هشاشةً من خلال دعم الدولة أو المساعدات الخارجية.

وتشير المادة 3 من مسودّة القانون إلى أنّ المشروع يستهدف اللبنانيّين غير المشمولين بأي تغطية صحيّة إلزامية، مع إمكانيّة ضمّ المقيمين الأجانب وفق شروطٍ يُحدَّدها مرسومٌ خاص. وتنبع أهمية هذه الخطوة من واقعٍ صحّي صعب؛ ففي السنوات الأخيرة، قفزت نسبة الإنفاق الشخصي على الرعاية الصحيّة لتبلغ نحو 33.1 في المئة من الإنفاق الصحي الحالي، وهي نسبةٌ تفوق بكثيرٍ العتبة المعياريّة (15 في المئة) التي اقترحتها منظّمة الصحّة العالميّة. وفي ظلّ الانهيار المالي للدولة، تراجع دعم الصناديق الضامنة القائمة (مثل الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعي وتعاونيّة موظّفي الدولة)، فيما أخذت وزارة الصحة على عاتقها دعم الاستشفاء لـ51 في المئة من السكّان تقريبًا، لكن من دون آليّةٍ مستدامةٍ لتغطية التكاليف.

وإلى جانب التحديات الاقتصاديّة، يواجه لبنان مشكلاتٍ ديمغرافيّة تتمثّل في تزايد نسبة كبار السنّ الذين لا يملكون خطةً للشيخوخة، واستمرار تهميش الرعاية الصحيّة الأولية والوقائية لمصلحة الاستشفاء المكلِف في المستشفيات الخاصّة. وقد فاقم انهيار الليرة اللبنانيّة أزمة الصناديق الضامنة، إذ تراجعت قيمة المخصّصات المالية الممنوحة، بينما بقيت تكاليف الدواء والفحوص والأدوات الطبّية مُقوَّمةً بغالبيّتها بالدولار الأميركي أو بسعر صرفٍ متقلّبٍ جدًّا. من هنا، يطرح القانون الجديد نفسه بديلًا محتمَلًا للوضع الحاليّ الذي تعجز فيه الغالبية العظمى من اللبنانيين عن تحمّل أعباء الطبابة.

الجهات الضامنة الحاليّة ومسألة التنظيم
لا يخلو مشروع التغطية الصحيّة الشاملة من تساؤلاتٍ حول مستقبل الصناديق الضامنة الموجودة منذ عقود، كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وجهاتٍ ضامنةٍ أخرى للقوى العسكريّة. وفيما يهدف القانون إلى "توحيد" الجهود وتخفيض الهدر الناتج عن تعدد المرجعيّات، لا تزال الخطّة التطبيقيّة في هذا الصدد مبهمة. فالمواد القانونيّة الحالية (13 إلى 19) تشير بوضوحٍ إلى إنشاء هيئةٍ جديدةٍ لإدارة النظام، لكنّها لا تتضمّن نصوصًا تفصيليّة حول كيفيّة دمج المؤسّسات القائمة أو ضبط علاقاتها بالنظام. ويخشى البعض من أن تتكرّس الازدواجيّة في حال استمرّت الصناديق التقليديّة بموازناتها المستقلّة وسياساتها الداخليّة، بالتوازي مع نظامٍ جديدٍ لم يتبلور بعد بصورةٍ كاملة.

وبحسب رئيس اللّجنة الصحيّة النيابيّة النائب بلال عبد الله، عُقدت أكثر من 21 جلسة عمل ودراساتٍ وإحصاءات ولقاءات مع خبراء محلّيين ودوليّين قبل تقديم المسودّة الحاليّة للرئيس برّي. ويصف عبد الله المشروع في تصريحات بأنّه "بارقة أمل لإنقاذ الشعب اللبناني من مأساة التغطية الصحيّة"، مشدّدًا على أنّه خطوةٌ أساسيّةٌ لاستعادة الدولة دورها الرعائيّ وبناء عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ بين المواطن والدولة. وإلى جانب لقاءٍ أخيرٍ مع الرئيس برّي، يتهيّأ النوّاب للمضيّ بالمداولات في اللجان المشتركة، بالتنسيق مع وزير الصحّة ووزير الماليّة، في محاولةٍ لتأمين التوازن الماليّ الضروريّ وتحاشي تحميل المواطنين أعباءً إضافيّة في ظلّ الوضع المعيشيّ الخانق.

يُذكر أنّ "المدن" حاولت التواصل مرارًا مع النوّاب المعنيّين في لجنة الصحّة العامّة والعمل لاستطلاع آرائهم والحصول على أجوبةٍ تتعلّق بمستقبل الصناديق الضامنة، غير أنّهم آثروا انتظار نتائج الاجتماعات المُزمع عقدها مع كلٍّ من رئيس الجمهوريّة جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام قريبًا.

كيفيّة التمويل والتحدّيات الماليّة
وتوضّح المواد 5 إلى 7 من مسودّة القانون أنّ موارد النظام ستأتي من بدل البطاقة الصحية، والاعتمادات في الموازنة العامّة، والتبرّعات والهبات، إضافةً إلى "ضريبة تعاضديّة" لتجسيد مبدأ التكافل الاجتماعيّ. بيد أنّ كثيرين يتخوّفون من عدم استدامة هذه الموارد في ظلّ ارتفاع نسب البطالة وتراجع القطاعات الإنتاجيّة وتعدّد التزامات الدولة العالقة. كما أنّ غياب دراسةٍ اكتواريّةٍ شاملة تُحدِّد التكلفة الحقيقيّة للنظام على مدى السنوات المقبلة يثير القلق حيال إمكانيّة ترسّخ عجزٍ ماليٍّ جديد.

وينصّ القانون على إمكانيّة توسيع الخدمات المدرجة، مثل الاستشفاء الحكوميّ والخاصّ والفحص الطبّي التشخيصيّ والأدوية السرطانيّة وغسيل الكلى مجّانًا، وذلك وفق مرسومٍ يُتَّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الصحّة ووزير الماليّة. غير أنّ بعض الخبراء يحذّرون من بطء هذا الأسلوب إذا لم تُوضع آليّةٌ تفصيليّةٌ تُحدَّد فيها شروط إضافة الخدمات والمعايير الطبّيّة والاقتصاديّة المعتمدة. ومن دون هذه المرونة، قد يتأخّر توفير خدماتٍ ضروريّةٍ للمواطنين، خصوصًا في ظلّ سرعة تغيّر الظروف الصحيّة والاقتصاديّة.

وقد صدرت في هذا المجال دراسةٌ تضمّ تحليلًا مفصّلًا لمشروع قانون التغطية الصحية الشاملة في لبنان، تشمل الثغرات والتوصيات، عن برنامج ترشيد التشريع في الجامعة الأميركيّة في بيروت.

مرحليّة التطبيق ومؤشّرات النجاح
يسعى بعض النوّاب إلى التعجيل في إقرار القانون وتطبيقه، مع إدراكٍ مسبقٍ بأنّ إصدار المراسيم التطبيقيّة ووضع الهيكليّة التنفيذيّة سيستغرق وقتًا إضافيًّا. ولضمان نجاح المشروع، يشدّد أهل الاختصاص على ضرورة اعتماد مؤشّرات تقييمٍ واضحة، مثل نسبة التغطية الفعليّة ومدى الرضى لدى المستفيدين وكلفة الفرد ضمن النظام وجودة الخدمات الصحيّة. وتؤكّد المادة 14 من المسودّة إعداد تقارير سنويّة تُرفع إلى مجلس الوزراء، تُظهر حركة تطوّر الواردات والنفقات وسير العمل، على أن يتولّى مدقّقٌ خارجيٌّ (المادة 18) مراقبة أداء الهيئة الإداريّ والماليّ، تفاديًا للهدر وتعزيزًا للشفافيّة.

وقد تواصلت "المدن" مع وزارة الصحّة العامّة لمعرفة رأي وزير الصحّة بمشروع القانون، إلّا أنّ فريقه الإعلاميّ أكّد أنهم حديثو العهد في الوزارة وليس لديهم اطّلاعٌ مُسبق على هذا الموضوع.

والحال أنّه يُنظر إلى مشروع قانون التغطية الصحيّة الشاملة كخطوةٍ قد تُخرج البلاد من مأزقٍ صحّيٍّ واقتصاديٍّ متشابك، إذا ما جرى تطبيقه بحرفيّةٍ وشفافيّةٍ مع توفير التمويل المناسب. بيد أنّ التجارب السابقة مع إصلاحاتٍ مشابهةٍ تُظهر أنّ المسار التنفيذيّ قد يعترضه العديد من التحدّيات المتعلّقة بالتنسيق بين الصناديق الضامنة والإدارة الماليّة للمشروع وضبط نفقات الاستشفاء وتأمين الموارد البشريّة المؤهّلة. في المقابل، تبدو الحاجة ماسّةً إلى رؤيةٍ شاملةٍ تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، وتقطع الطريق على الإهدار والمصالح الضيّقة.