"يقطعون الأشجار من جذوعها"... التحطيب كارثة بيئية في لبنان

"نشاهد يوميّاً أشخاصاً يقطعون الأشجار وعلى مرأى من الجميع، غير آبهين بأحد. بعضهم مواطنون عاديون غير قادرين على شراء طن الحطب الذي يبلغ سعره ستة ملايين ليرة لبنانية، وبعضهم تجّار حطب يبيعونه للناس، ليحققوا من جريمتهم هذه أموالاً طائلةً"؛ هذا ما يقوله محمد، ابن مدينة الهرمل شمال بعلبك، وهو يتحدث إلى رصيف22، عن إبادة ملحوظة للمساحات الخضراء في جبال الهرمل.

وباتت أصوات مناشير الحطب التي ترتفع بين الحين والآخر في المناطق الجبلية في لبنان، أمراً مألوفاً للسكان، فلا يكاد يمر يوم إلا وتباد فيه عشرات الأنواع من الأشجار الحرجية وغير الحرجية بحجّة التدفئة، ونتيجة ارتفاع سعر المحروقات وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وعجز الناس عن تأمين الدفء لمنازلهم.

وينبّه محمد إلى أن أعمال القطع هذه لا تتم عن دراسة أو دراية، فالشجر يُقطع من جذوعه، بحيث تصعب عليه إعادة النمو، بدل قطع الأشجار اليابسة أو تشحيل (تقليم) الشجر.

أعمال القطع لا تطال الأشجار الحرجية فقط، وإنما الأشجار المثمرة والزيتون المنتج، إذ يؤكّد محمد أن هناك مافيات ناشطةً، دخلت في الأيام الماضية إلى عدد من المزارع وقطعت أشجار الزيتون والمشمش من جذوعها، ليتفاجأ أصحاب الأرض بهذه الكارثة وليتقدموا ببلاغ ضد مجهول لدى القوى الأمنية لتوقيف المرتكبين.

وفي منقطة إقليم الخرّوب في جبل لبنان، يقطن داني، الذي يتحدث إلى رصيف22 عن أصوات المناشير التي لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً، فيقول: "نسمع أصوات المناشير في الليل، ونستطيع أن نرى الأضواء التي يحملها المعتدون خلال قطعهم للأشجار".

ويلفت داني إلى أن المعتدين يتحرّكون براحة تامّة غير مبالين بالأجهزة الأمنية والقضائية، كما تُشاهد شاحنات الحطب تجوب شوارع الإقليم من دون حسيب أو رقيب، والناس تعرف التجار بالأسماء وتشتري منهم الحطب.

وضمن هذا السياق، يؤكّد أشرف زحلان، وهو مدير مصنع "زحلان" للمواقد والأفران في مدينة عاليه في جبل لبنان، أن نسبة مبيعات مواقد الحطب لهذا العام مرتفعة مقارنةً بمواقد المازوت، حتى أن الناس يأتون بمواقد المازوت المستعملة لديهم لإعادة تصنيعها لتصبح قابلةً للعمل باستخدام الحطب.

ويشير زحلان في حديثه لرصيف22، إلى أن أسعار الحطب اليوم باتت أيضاً مرتفعةً، فسعر الطن يبلغ 150 دولاراً، ويرتفع أكثر إن كان حطب سنديان، أما سعر برميل المازوت فقد وصل مع بداية فصل الشتاء إلى 240 دولاراً، أضف إلى ذلك أن الحطب يخدم لفترة أطول من المازوت، من أجل ذلك يتهافت الناس عليه، إما عبر قطع الأشجار أو عبر شرائه.

الجمعيات ملجأ المواطنين

رئيس جمعية الأرض بول أبي راشد، وفي حديثه إلى رصيف22، أكّد أن الذي يجري اليوم من مجازر بحق غابات لبنان هو أمر مبكٍ ومخيف، ويقول: "أخبرني رئيس بلدية في عكار بأنه لم تبقَ شجرة سنديان واحدة ولا أشجار معمرة جرّاء القطع. نحن أمام كارثة خطرة".

ويضيف: "نحن في الجمعية أصبحنا مقصداً للناس، يصلون إلينا بأي طريقة. تلقيت شكويَين من رئيسي بلديتين في الشمال حول مجازر تُرتكب بشجر اللزاب، وبمجرّد أن أرسلت خبراً حول هذه المجزرة تحركت النيابة العامة". ومن خلال عمل الجمعيات وتحذيراتها فإن الناس باتت تتشجع على إطلاق الصرخة أو التبليغ عن حالات قطع للأشجار، فتخبر الجمعيات لتقوم بدورها بإبلاغ القوى الأمنية، وفق ما يؤكّد أبي راشد.

ويحذّر من مغبة الاستمرار في هذه الجريمة كون القضاء على البساط الأخضر الذي يبلغ 13% من مساحة لبنان، يهدد مصدر الأوكسيجين للمواطنين، كذلك يهدد عملية تخزين المياه في الآبار الجوفية ويزيد من مخاطر انجراف التربة، بالإضافة إلى القضاء على مأوى الطيور والحيوانات.

لا قطع من دون ترخيص

يتحجج البعض بالتقليم أو باستصلاح الأراضي لقطع الاشجاء إلا أن القانون اللبناني نظّم الأمر، ويشير مدير التنمية الريفية والثروات الطبيعية في وزارة الزراعة الدكتور شادي مهنا، في حديثه لرصيف22، إلى أن قانون الغابات يسري على أملاك الجمهورية اللبنانية والبلديات والأملاك الخاصة، سواء أكانت تابعةً لفرد أو لوقف أو لجمعية، فجميعهم بحاجة إلى ترخيص لقطع شجرة، ويُقدَّم الطلب في أقرب مركز أحراج موجود في كل قضاء تقريباً مع المستندات المطلوبة، ويتحرّك حرّاس الأحراج ليكشفوا ويقدّروا حجم الأخطار الناتجة عن هذا الترخيص، وبعدها يرسَل الملف إلى المصلحة الإقليمية التي تدرسه وترسله إلى الوزارة في بيروت، حيث تصدر الرخصة.

وحول أنواع التراخيص يقول مهنا: "لدينا أنواع عدة، مثل ترخيص التشحيل والتفحيم والقطع والتفريد، والقطع هو أصعب ترخيص كون شروطه قاسيةً، ولا نعطي ترخيصاً لقطع الأشجار الصمغية إلا في حالة البناء المرخّص أو بداعي الأشغال العامة التي تقوم بها الدولة، ويضاف إليها القطع بسبب السلامة العامة، فقد تكون هناك شجرة مهددة بالسقوط على الأسلاك أو على مبنى سكني، وهنا نسمح بإزالتها".

دور القوى الأمنية والعسكرية

يؤكّد مهنا أن هذا العام شهد تفلّتاً كبيراً في موضوع القطع، فالمشكلة كبيرة جداً مع مافيات الحطب التي تنقل الحطب من منطقة إلى أخرى بهدف التجارة، لكن الجيش يعمل على إيقافها لأنها لا تملك ترخيصاً من وزارة الزراعة، وهذا الشيء خفف نوعاً ما من الاعتداءات المباشرة على الأحراج، ونسبة كبيرة من المواطنين لجأت إلى الوزارة لتقديم التراخيص، التي زادت مؤخراً بشكل كبير.

وتعاني وزارة الزراعة من مشكلات عدة، فنقص القوى العاملة يُعدّ عاملاً معرقلاً لعملها، وهنا يقول مهنا: "للأسف ليس لدى الوزارة العديد الكافي لمراقبة تنفيذ هذه التراخيص، فلدينا 150 حارساً للأحراج لكل لبنان مع أن ملاك حرّاس الأحراج يتسع لـ360 حارساً، أضف إلى ذلك قلّة السيارات وأزمة المحروقات".

كيف يمكن أن نعوّض الخسارة؟

لا يمكن أن نعوّض الخسارة في الثروة الحرجية إلا إذا أوقفنا النزيف الحاصل، وفق ما يؤكّد مهنّا، ويقول: "جميعنا تقع علينا مسؤولية حماية المساحات الخضراء في لبنان، فالدور الأول يقع على عاتق البلديات، التي تعرف أين هي الأحراج التابعة لها، وتعرف أين يكدّس الحطب ومن يقوم بالقطع. عدد قليل من رؤساء البلديات يتحرّك، إذ يفضلون عدم الدخول في مشكلات مع السكان وأهالي البلدة، فلا يبلّغون عن مخالفات إلا إذا كان المعتدي من خارج البلدة، خصوصاً أننا قادمون على انتخابات بلدية بعد أشهر قليلة".

كما تقع على القضاء مسؤولية كبيرة، وحسب مهنّا فإن عمل الوزارة مقتصر على ضبط المخالفة فقط، وبدورها تحوّلها إلى القضاء وهو الحكم، ويقول المتحدث: "لدينا محاضر ضبط من سنوات طويلة والقضاء إلى الآن لم يبتّ فيها، كما تجب زيادة الغرامات على المخالفين، وعدم تدخّل أحد في القضاء للضغط عليه من أجل إطلاق سراح أو إعفاء أي مخالف".