لبنان يطلق مبادرة للتفاوض...واسرائيل تستعدّ لأيام قتالية

على وقع العدّ التنازلي لزيارة البابا ليو الرابع عشر للبنان بين 30 نوفمبر و2 ديسمبر، يَرتقي الوطن الصغير على «سلّم أولوياتٍ» مزدوج ومتوازٍ، عسكري في ظلّ جعْل تل أبيب «لا صوت يعلو فوق صوت» طبول الحرب أو الأيام القتالية على «جبهة الشمال» مع «حزب الله»، ودبلوماسي في ضوء إشاراتِ تَقَدُّمِ الملف اللبناني على أجندة الولايات المتحدة واهتماماتها وإن تحت سقف سياسة «العصا والجزرة».

وغداة مبادرة النقاط الـ 5 التي أطْلَقَها رئيس الجمهورية العماد جوزف عون في رسالته بذكرى الاستقلال (1943) والتي طرحتْ إطاراً لإنهاءِ تل أبيب احتلالها للنقاط داخل الأراضي اللبنانية ولوقفٍ نهائي لاعتداءاتها و«لحصْر كل سلاح خارج الدولة»، رسمّتْ إسرائيل «الأولوية» العسكرية للجبهة مع «حزب الله» بموجةٍ غاراتٍ جنوباً وبقاعاً ضد أهداف زعمتْ أنها مواقع ومستودعات أسلحة ومنصات صاروخية عائدة للحزب كما ضدّ كوادر منه تم اغتيالهم. 

وإذ تركّزتْ الغاراتُ المتزامنةُ في سهل البقاع (شمسطار - بعلبك وأحراج راشيا الفخار – قضاء حاصبيا) ومنطقة النبطية، بدا من الصعب فصل «اندفاعة النار» الإسرائيلية الجديدة عن مضامين مبادرة عون، وسط خشيةٍ من أن تكون تل أبيب وجّهتْ «رَداً في الميدان» يشكّل امتداداً لموقفها الذي لم يلاقِ إبداء الرئيس اللبناني الاستعدادَ للتفاوض لحلّ المشاكل العالقة بالتزامن حينها مع انطلاق قطار «سلام غزة» من شرم الشيخ.

وتتمحور عدم الحماسة الإسرائيلية لمفاوضاتٍ مع لبنان حول أن أفقَها محكومٌ بعدم رغبة ولا قدرة الدولة اللبنانية على تنفيذ تعهّداتها بسحْب سلاح «حزب الله» من شمال الليطاني (كما جنوبه) هي التي تَعتبر «السلم الأهلي» خطاً أحمر والتي تَصطدم بـ «لا» كبيرة معلَنة من الحزب تكراراً بأنه يرفض أي نقاش حول ترسانته العسكرية قبل أن توقف إسرائيل اعتداءاتها وتنسحب من النقاط التي مازالت تحتلها وتطلق الأسرى وينطلق مسار الإعمار وبعدها يُبحث السلاح في إطار نقاش لبناني وتحت سقف إستراتيجية دفاعية.

وإذ ليس سِرّاً أن أي مفاوضات مع إسرائيل لا يمكن أن تكون إلا على القاعدة البدهية لأي طاولةٍ وهي «الأخذ والعطاء» حيث لا يَملك لبنان أي شيءٍ للنقاش حوله مقابل المطلوب من تل أبيب إلا السلاح – وهذا ما يفسّر اعتراض حزب الله على مبدأ التفاوض – فإنّ الاقتناع يتزايد بأنّ الدولة العبريةَ يَصعب أن تعتمدَ مساراً دبلوماسياً قبل أن: 

تتولى أقلّه إضعافَ الحزب، وفق ما تشيعه منذ أسابيع، عبر جولاتٍ قتالية جديدة، إن لم تكن الحرب الشاملة متاحة.

وأن يتمّ على وهْج ذلك فتْحُ باب التفاوض بالتوازي مع تركيز الضغط على لبنان الرسمي وتخييره «تحت المطرقة» (يكون ترامب شريكاً فيها وفق اعتقاد تل أبيب) بين السيء والأسوأ، في استنساخ ضمني لما رافَقَ إبرام اتفاق 27 نوفمبر 2024 ولكن هذه المرة مع استدراجِ ضماناتٍ دولية عبر آليات واضحة تجنّب تكرار سيناريو تنصّل حزب الله منها وفق تفسير تل أبيب له على أنه ينصّ على سحب كل سلاحه جنوب الليطاني وشماله.

«مبادرة خماسية»

من هنا خضعت مبادرة الرئيس اللبناني الخماسية إلى تدقيقٍ في بنودها، وسط انطباعٍ بأن ما يَحكمها ظاهرياً هو مسار «متزامن» ولكن مع غموضٍ يلفّ هل النقاط الخمس هي تَراتُبية أم متوازية وفق «السلة الواحدة»، باعتبار أن ترتيبَها عمودياً لن يمرّ إسرائيلياً ولا على الأرجح أميركياً، ناهيك عن أن موقف حزب الله المتشدد بإزاء «الإطار اللبناني» لبحث مستقبل سلاحه، تضعف ركائز الموقف الرسمي لبيروت في أي مفاوضاتٍ.

وقد أعلن عون، ومن قطاع جنوب الليطاني الذي يتولى الجيش «تنظيفَه» من سلاح «حزب الله» ضمن خطته في مرحلتها الأولى (حتى نهاية ديسمبر) أن «يعلن لكل العالم ما يلي:

– تأكيد جهوزية الجيش اللبناني لتسلّم النقاط المحتلة على حدودنا الجنوبية، واستعداد الدولة اللبنانية لأن تتقدّم من اللجنة الخماسية فوراً، بجدول زمني واضح محدّد للتسلّم.

– استعداد القوى المسلّحة اللبنانية لتسلّم النقاط فور وقف الخروق والاعتداءات كافة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من كل النقاط.

– تكليف اللجنة الخماسية بالتأكّد، في منطقة جنوب الليطاني، من سيطرة القوى المسلّحة اللبنانية وحدها، وبسط سلطتها بقواها الذاتية.

– إن الدولة اللبنانية جاهزة للتفاوض، برعاية أممية أو أميركية أو دولية مشتركة، على أي اتفاق يُرسي صيغة لوقف نهائي للاعتداءات عبر الحدود.

– بالتزامن، تتولّى الدول الشقيقة والصديقة للبنان، رعاية هذا المسار، عبر تحديد مواعيد واضحة ومؤكّدة، لآلية دولية لدعم الجيش اللبناني، كما للمساعدة في إعادة إعمار ما هدّمته الحرب. بما يضمن ويسرّع تحقيق الهدف الوطني النهائي والثابت، بحصر كل سلاح خارج الدولة، وعلى كامل أراضيها».

ولم تَخْلُ كلمة عون من إشارات ذات دلالات بالغة برسْم «حزب الله»وأبرزها:

- حديثه عن «بعض المرتابين من تطورات المنطقة، والذين لديهم انطباعٌ وكأن شيئاً لم يتغير، لا عندنا ولا حولنا ولا في فلسطين ولا في سوريا ولا في العالم»، وقوله: «هذه مكابرة أو حالة إنكار ليُقْنِع هذا البعض نفسه، بأنه يمكنه الاستمرار بما كان قائماً من تشوهات في مفهوم الدولة وسيادتها على أرضها، منذ 40 عاماً. وهذا السلوك مجاف للواقع. وللإرادة اللبنانية أولاً، قبل مناقضته للظروف الإقليمية والدولية».

- إعلان عون «نقف هنا على أرض الجنوب، لنقول لمن يرفض الاعتراف بما حصل، بأن الزمن تغير، وأن الظروف تبدلت، وأن لبنان تعب من اللادولة، وأن اللبنانيين كفروا بمشاريع الدويلات، وأن العالم كاد يتعب منا، ولم نعد قادرين على الحياة في ظل انعدام الدولة. والمسألة هنا لا تعني فقط حصر السلاح وقرار السلم والحرب، وهذا ضروري جداً وحتمي فعلاً، بل المطلوب أكثر، هو حصر ولاء اللبناني بوطنه، وحصر انتمائه الدستوري والقانوني إلى دولته، لنعيد بعدها ثقافة الدولة، نهج حياة وسلوك في كل تفصيل من حياتنا وعلى كل شبر من أرضنا. فلم يعد مقبولاً التغوّل على الحق العام، ولا على الملك العام، ولا على المال العام، ولا على الفضاء العام».

- تأكيده في معرض الكلام عن زيارة البابا تحت عنوان «طوبى لفاعلي السلام»، «اننا اخترنا هذا العنوان لأننا شعب يؤمن بالسلام ويسعى إليه، ولأن منطقتنا تتجه نحو مرحلة من الاستقرار يتوجب علينا أن نستعد لها جيداً، ونحو إعادة إحياء سلام قائم على الحقوق والعدالة، سلام فلسطين وشعب فلسطين. وهو ما نحن حاضرون للشراكة فيه بكلية وفاعلية، إن عبر توسعة نطاق اتفاقيات سابقة، أو عبر أخرى جديدة، كي لا نصير على قارعة الشرق، وكي لا يتحول بلدنا عملة تفاوض، أو بدل تعويض في خارطة المنطقة الجديدة».

وأضاف: «نعم، نحن حاضرون وجاهزون بلا أي عقد، وفق قاعدة واضحة: فمسار الشأن اللبناني، من بيروت حتى حدودنا الدولية، نسيّره وحدنا بقرارنا الذاتي المستقل، وبدافع مصلحة لبنان ومصالح شعبه العليا دون سواها، وهذا يعني انسحاباً إسرائيلياً من كل متر مربع من أرضنا، وعودة لأسرانا، وترتيبات حدودية نهائية، تؤمّن استقراراً ثابتاً ونهائياً. أما أي خطوة أبعد من الحدود، فنسير بالتنسيق والتلازم مع الموقف العربي الجامع. ونرى في القمة الأخيرة في واشنطن بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مؤشرات مشجعة جداً لانطلاق مساره. هذا المسار الذي لن يتخلف عنه لبنان خطوة واحدة».

«الشد والرخي»

وفي موازاة ذلك، كانت الولايات المتحدة تُعْلي أهميةَ الملف اللبناني الذي تقاربه بمزيجٍ من «الشدّ والرخي» تحت سقف دَفْعها لبتّ قضية السلاح ضمن مهلةٍ تَفرضها سرعةُ التحوّلات في المنطقةِ وعدم السماح بأي عثرةٍ في طريقها، وسط التعاطي مع تغطيتها الغارات الإسرائيلية في غزة على أنه بمثابة امتداد لسياسة «السلام بالقوة» في غزة كما... لبنان.

وفي هذا الإطار وبعد «رسالة التشدد» التي شكّلها إلغاء مواعيد قائد الجيش العماد رودولف هكيل في واشنطن ما أدى إلى تطيير زيارته لها وسط مضبطة اتهام من أعضاء في الكونغرس للمؤسسة العسكرية بالتهاون في نزْع سلاح «حزب الله» مع تلويح بأن دعم الجيش بات «استثماراً غير جيد»، برز مسار العصا والجزرة وفق الآتي:

- كلام الرئيس دونالد ترامب رداً على سؤال لمحطة «ام تي في» اللبنانية عن أنه سيدعو عون لزيارة البيت الأبيض «بكل تأكيد سأفعل ذلك»، موضحاً تعقيباً على سؤال آخر «اننا ندفع لنزعٍ كامل لسلاح حماس وجميع الآخرين ولدينا سلام في الشرق الأوسط، وتعلمون انه كانت لنا لقاءات ممتازة هنا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان»، مضيفاً «أعتقد أن حزب الله مشكلة كبيرة للبنان، ونعمل مع لبنان والجميع في الشرق الأوسط. ونريد رؤية السلام فيه (...)».

وكان ترامب قال لـ «فوكس نيوز»: «لقد أزلنا غيمة سوداء كبيرة عن الشرق الأوسط بتقليص حجم إيران، وحزب الله في لبنان ليس في وضع جيد».

- توجيه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو رسالة إلى لبنان لمناسبة عيد الاستقلال.

وقال في بيان أورده الموقع الإلكتروني لخارجية بلاده: «باسم الولايات المتحدة، أتقدّم بأطيب التمنّيات وأحرّ التهاني للشعب اللبناني بمناسبة الذكرى الثانية والثمانين لاستقلال لبنان». وأضاف: «اتّخذت الحكومة اللبنانية هذا العام خطوات شجاعة لتعزيز مستقبل أكثر إشراقاً للشعب اللبناني. وستستمر الولايات المتحدة في الوقوف إلى جانب لبنان والعمل معه من أجل تعزيز الاستقرار والازدهار الاقتصادي في لبنان وفي مختلف أنحاء المنطقة».

- إعلان مسؤول أميركي لقناة «الحدث» أنّ «الجيش يقوم بعمليات نزع سلاح حزب الله لكنه لا يملك قدرات كبيرة». وأضاف: «لا يقوم الجيش اللبناني بما يكفي لنزع سلاح الحزب».

وتابع: «رصدنا أخيراً عمليات إعادة تسليح لحزب الله مع عدم المساس بمخازن أسلحته وهذه التطورات تساهم في إعادة تمكين الحزب الذي بدأ يستعيد قوته، وهو يتلقّى المزيد من السلاح من إيران».

ولفت المسؤول الأميركي إلى «أن الإدارة الأميركية تعمل على إدارة الوضع بين لبنان وإسرائيل وهي تسهّل الاتصالات بينهما من خلال اللجنة الخماسية (تشرف على تطبيق اتفاق وقف النار 27 نوفمبر)»، مضيفاً: «نتابع مع الجيش اللبناني تبادل المعلومات لنزع سلاح حزب الله».

وفي حين كان لافتاً تلقي رئيس الجمهورية برقية تهنئة بالاستقلال من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أعرب فيها عن «أصدق التهاني وأطيب التمنيات بدوام الصحة والسعادة لفخامته، ولحكومة وشعب الجمهورية اللبنانية الشقيق اطراد التقدم والازدهار»، وكذلك برقية مماثلة من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، تترقب بيروت أن يزورها الأربعاء وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي لمتابعة ما بدأه مدير المخابرات حسن رشاد الذي استكشف إمكان اضطلاع القاهرة بدور في إطلاق مسار التفاوض بين لبنان وإسرائيل.