12 مليون ليرة شهرياً حاجة العائلة في بيروت

كتبت روزيت فاضل في النهار:  إذا كان 74 في المئة من اللبنانيين يعانون الفقر استناداً إلى التقرير الأخير للأمم المتحدة، فإن المؤشر الاجتماعي الاقتصادي الرئيسي لنزوح اللبنانيين من المدينة إلى الريف أبرز، وفقاً لما ذكره الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور بيار خوري لـ"النهار"، أن مستوى العيش في العاصمة هو دائماً 30 في المئة أعلى مما هو في القرى...

إذاً يشكل الريف حالة مثالية لمن يرغب في "كفاف يومه"، ولاسيما إذا كانت فرص الهجرة صعبة جداً أو مؤجلة في هذه المرحلة، مع إضافة عوامل اجتماعية خانقة تعود إلى غياب شبكة الأمن والأمان في العاصمة وهاجس جائحة "كورونا" وتداعيات الانفجار المشؤوم في 4 آب والتلوث المستفحل في العاصمة.

بلغة الأرقام، لا نملك إحصاء دقيقاً أو نهائياً لهذه الهجرة الداخلية. وإذا استندنا إلى ما نشرته المجلة الشهرية الصادرة عن "الدولية للمعلومات" في عددها الصادر في 24 آب 2021 فانه "من الممكن رصد هذه الهجرة من خلال عيّنات في عشرات القرى، حيث يشكل العائدون نسبة راوحت ما بين 5% و7% من سكانها"، مشيرة إلى أنه "إذا ما اعتبرنا أن عدد المقيمين في القرى والأرياف يقارب نسبة 25% من اللبنانيين المقيمين أي نحو1.1 مليون لبناني، فإنّ عدد العائدين يراوح ما بين 55 ألف فرد و77 ألفا، وهذه الأعداد مرشحة للازدياد مع اشتداد الأزمة وتفشي البطالة وارتفاع كلفة المعيشة في المدن مقارنة بالقرى والأرياف".

من يقصد الريف؟ الأستاذة المساعدة في الدراسات عن الهجرة في قسم العلوم الاجتماعية في كلية الآداب والعلوم في الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتورة جاسمان ليليان دياب، قالت لـ"النهار" إن "الذين يهاجرون حاليًا من بيروت إلى المناطق الريفية هم النازحون داخليًا عقب الانفجار وهم من جميع الأعمار، إضافة إلى الذين فقدوا أعمالهم منذ ثورة عام 2019، وواقع جائحة كورونا، مع التشديد على أن الريف بات خياراً للشباب، ولاسيما من هم دون الـ 35 عاماً، الذين يعملون الآن في الاتجاه "الجديد"، أي العمل عن بُعد، لأن العيش خارج بيروت ميسور الكلفة أكثر، وأكثر ملاءمة لنوعهم الجديد من الدخل وأسلوب حياتهم".
ولفتت إلى أن "انفجار 4 آب أدى إلى أضرار فادحة في منازل نحو 300 ألف شخص، ما دفعهم إلى الإقامة مع الأصدقاء والأقارب في المناطق الريفية أو خارج بيروت".

وأشارت إلى أن "مدة النزوح ستختلف بناءً على مستوى الضرر وقدرة كل أسرة على إعادة البناء، وظروفها المعيشية قبل الانفجار، ويخشى كثيرون من أنهم سيظلون نازحين بدون مساعدة لمدة تصل إلى عام واحد".

وتوقفت عند ما نشرته بعض التقارير أيضًا من أن الإنفجار "ترك أثراً خطيرًا على الصحة العقلية للناس، إذ أدى إلى اضطرابٍ ما بعد الصدمة عند الكثيرين، ما دفعهم إلى مغادرة بيروت نحو مناطق نائية في محاولة للخروج من الصدمة النفسية من جراء تداعيات الإنفجار".

في المنهجية البحثية لظاهرة هذه الهجرة الداخلية، ذكرت محللة بيانات في مركز "ريليف" يارا سليمان لـ"النهار" أن "المركز، الذي يتخذ مقراً له في معهد الازدهار العالمي في كلية لندن الجامعية، يجري بحوثاً عن الازدهار ونوعية الحياة ضمن مجتمعات عدة في لبنان، وتدهور الأوضاع على مدى السنوات الثلاث الماضية"، مشيرة إلى أنه "أُعدّ مؤشر الازدهار في لبنان لمنطقة الحمراء في بيروت عام 2019، ولأحياء متعددة في الميناء- طرابلس عام 2020، ولمنطقة مار مخايل عام2021".

وكشفت أن "نتائج دراسة بعض النماذج حددت أن نحو %11.1 من سكان الميناء و10.1 % من سكان مار مخايل يخططون للانتقال من منطقة عيشهم في غضون 6 أشهر من وقت إجراء الدراسة"، مشيرة إلى أن "غالبية المشاركين في دراسة الميناء أكدوا أن سبب النزوح المتوقع هو ظروف المسكن والمياه والصرف الصحي غير الملائمة، بينما كان سكان مار مخايل يخشون غالباً التهديدات الأمنية".

وأضافت أن "معظم المجيبين (%87.7) في مار مخايل أفادوا عن تدنٍّ في دخل الأسرة مقارنة بالفترة التي سبقت شهر تشرين الأول 2019"، وأنه "لمواجهة انعدام الأمن الغذائي والأعباء المالية، اضطر سكان مار مخايل إلى إنفاق بعض أو كل مدخرات أسرهم وخفض النفقات الصحية (%20.2)، وشراء الطعام بالدَّين (%13.5)".

وكشفت أيضاً أنه "من حيث الإيجارات الجديدة، أظهر تقويم القدرة على تحمل تكاليف السكن أن %32.5من اللبنانيين و75.0 % من غير اللبنانيين الذين يعيشون في مار مخايل دفعوا أكثر من %30 من دخلهم على شكل إيجار عام 2021، مع العلم أن نسبة البطالة بلغت 27 % في مار مخايل، وهي أعلى بنسبة %16 من التقديرات الوطنية الأخيرة الناتجة عن إدارة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية في العام 2020، إضافة إلى أن 50.6 % من أرباب الأسر العاطلين عن العمل وغير الناشطين اقتصادياً تم تسريحهم عام 2019 أو بعده".

بدوره، رأى الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور بيار خوري أن "ثمة عوامل تعطي الأفضلية للحياة الريفية في لبنان، ولاسيما في ظل انهيار اقتصادي واسع أدى إلى بطالة بنسبة 50 في المئة من القوى العاملة وتعطل توظيف المتخرجين، وارتفاع كلفة السكن في المدينة وما يتبعها من أزمات في توافر الطاقة والمحروقات وما شابه".

وقال لـ"النهار" إنه "في ظل تراجع المداخيل، يصبح الريف أفضل لكل من يتابعون أعمالهم عبر الإنترنت"، مشيراً إلى أن "كلفة الإقامة في المدن الكبرى لعائلة من والدَين وولدين أو ثلاثة تبلغ بالحد الأدنى من 10 إلى 12 مليون ليرة شهرياً موزعة على ربع المبلغ للطاقة، وربع ثان للنقليات والنصف الثاني المتبقي يوزع على الصحة والغذاء والمأكل والمشرب ودفع أقساط المدارس".

ورداً على سؤال عن الطبقة التي تميل إلى النزوح اليوم أكثر من أي وقت إلى الريف، أجاب: "تفتقر ثلاثة أرباع الطبقة المتوسطة إلى موازنة من 10 إلى 12 مليون ليرة شهرياً، وهي موازنة محدودة لا تتحمل أي مفاجآت، ما يدفعها للهجرة خارج لبنان أو الانتقال إلى المناطق الطرفية والريفية".

برأيه، "الانتقال إلى الريف يقلص نفقات دفع المحروقات، وثانياً موازنة التنقل لأن هناك من يعمل في الميدان أو يلجأ البعض إلى نموذج تعاوني من خلال تقاسم تكاليف تنقل خمسة أشخاص في السيارة من العمل وإليه"، مشيراً إلى أن "مستوى الأسعار أساساً للغذاء هو أقل 30 في المئة من المدينة وهذا ينطبق أيضاً على الخضر والفاكهة".

وعما إذا كان الفقراء يقصدون الريف، قال: "من المرجح أن يكون الفقراء في المدن نازحين من الأرياف ونمط عيشهم بدائي، وربما لا يستعملون المكيّف، أو ليس لديهم إشتراك مولد كهرباء، أو يرتاد أولادهم المدارس الرسمية".  

عن أسباب انتقالهم إلى المدينة، قال: "ينتقلون إلى المدينة لأنها تتيح فرصة أكبر لاصطياد الأرزاق على عكس الطبقة المتوسطة التي يحتاج وجودها إلى المدينة. ولكن لم يعد من الممكن تأمين نفقات ثابتة في ظل الدخل المالي والأزمة الإقتصادية الحادة والتضخم".

اجتماعياً، رأى الباحث الاجتماعي نزار حسن في اتصال مع "النهار" أن "سبب النزوح مادي طبعاً، مع التشديد على أن نسبة التلوث السمعي والبيئي في المدينة تدفع المواطن إلى الشعور بالقرف الشديد وإلى البحث عن مكان آخر يبعده عن أزمة عجقة السير وحال الإحباط العام في المدينة"، معتبراً أن "انفجار 4 آب شكل دافعاً أساسياً لنزوح الناس والبحث عن مكان للإنتماء إليه أكثر أماناً وأمناً، وقد يكون من خلال عودة الكثيرين إلى القرى..."