"أقلّية كبيرة موحّدة" مقابل "أكثرية متعدّدة مُشتّتة"

منذ لحظة إعلان نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة، بدأت التحليلات والتفسيرات تدور حول إشكاليتين أساسيتين، الأولى تمحورت حول إمكانية خرق الوجوه التغييرية، لوائح أحزاب السلطة والمنظومة؟ والثانية لمن ستؤول الأكثرية النيابية المقبلة في ظل الصراع الداخلي بين الموالين لأحزاب إيران من جهة والمعارضين لها من جهة أخرى؟
بعد إنتهاء فرز الأصوات وإعلان النتائج الرسمية، حصدت القوى "الجديدة" التغييرية في المجلس ١٣ مقعداً نيابياً من أصل ١٢٨، ظنّ يومها المراقبون أن هؤلاء النواب الثلاثة عشر، موحدون حول مشروع واحد، طرح واحد وسياسة واحدة، ليتبين مع الوقت أن لا ثقة مطلقة حتى بين بعضهم البعض، وقد تجلّت هذه المشهدية في الاستحقاق الأول، عند البدء بفرز أصوات المقترعين في الجولة الأولى لانتخاب رئيس للمجلس النيابي، حين أصر هؤلاء على الرئيس نبيه برّي قراءة العبارات المكتوبة على الأوراق المخصصة للانتخاب، وعدم الاكتفاء باعتبارها ملغاة، بل طالبوه بقراءة مضمونها ليتأكدوا بين بعضهم البعض ومن معهم من بعض القوى المعارضة كحزب الكتائب اللبنانية وشخصيات أخرى، ويتبين أن جميع العبارات كانت محددة بين بعضهم البعض مسبقاً لكل نائب أو كتلة للتأكد أن أحداً منهم لن يصوت بالاقتراع السري للرئيس برّي.
مشهدية " اللا ثقة " الثانية تجلّت  في الاستشارات النيابية الملزمة (الاستحقاق الثاني) التي أجراها رئيس الجمهورية، أولاً في الشكل حين قرر هؤلاء لقاء الرئيس كلٌ على حداة، عند تحديد موعد اللقاءات، وثانياً في المضمون وبعد تراجعهم عن هذا القرار ولقاء فخامة الرئيس ككتلة واحدة، أعلن عشرة نواب منهم تسميتهم للسفير نواف سلام أما الثلاثة الباقون اعتكفوا عن أي تسمية.
المؤكد أن تعويل اللبنانيين التوّاقين إلى التغيير، على وحدة التغييريين في جميع الاستحقاقات كان أقوى من قبولهم بالواقع والحقيقة، والاعتراف بأنهم غير متفقين وإن صحّ "صفّهم" في كتلة جديدة واحدة، لا كتلتين على الأقل، لذلك وانسجاماً مع طرحهم قبل الانتخابات وتلبية لرغبة ناخبيهم، يفترض على هؤلاء الانفصال واعتماد الوضوح في تشكيل كتلتين مختلفتين كل على حدة، "واضحتيّ المعالم" لكل واحدة طرحها العريض الأساسي وخاصة تحديد نظرتها تجاه "حزب الله".
الإشكالية الثانية التي توقف عندها جميع المحللين، السياسيين وحتى المواطنين، تجلت بالإجابة على سؤال لمن آلت الأكثرية النيابية؟

في البداية، هللت الأحزاب المعارضة لحزب الله خسارته الأكثرية المطلقة (وفق اعتباراتها وحساباتها)، ولكن هل خسارة حزب الله الأكثرية تعني فوز معارضيه بها؟
كانت التجربة غير مشجعة، مع العودة للاستحقاق الأول (انتخاب رئيس للمجلس النيابي)، استطاع حزب الله وحركة أمل رغم ادعاء التيار الوطني الحر تمايزه، من إيصال الرئيس نبيه برّي إلى الرئاسة ومن الجولة الأولى بحصده أكثرية الأصوات النيابية، ما سمح لفلاسفة الفريق المعارض (المدعي حصوله على الأكثرية النيابية) من تفسيرها بأن للرئيس برّي صداقات، حتى تفاجأوا بفوز مرشح التيار الوطني الحر النائب الياس بو صعب بمركز نائب الرئيس، وهو أيضا من فريق حزب الله، تلاه انتخاب هيئة مكتب المجلس أيضاً مثبّتاً فوز مرشح قوى حزب الله وفريق الممانعة، هذا من دون التعقيب على نتائج انتخابات اللجان النيابية حيث غاب التغييريون والمعارضون عن اللجان الأساسية والمهمة خاصة في رئاساتها، فهل حقيقة خسر حزب الله وفريقه الأكثرية؟
الاستحقاق الدستوري الثاني المتمثل بدعوة النواب للاستشارات النيابية الملزمة، لتكليف رئيس للحكومة العتيدة، انطلق بتسمية حزب الله وفريقه السياسي للرئيس نجيب ميقاتي، مقابل عدم تسمية أي شخص من قبل حليفه التيار الوطني الحر، ما أدى لإيصال ميقاتي وتكليفه ب ٥٤ صوت من أصل ١٢٨ وبعملية بسيطة فاز مرشح حزب الله "بالأقلية الأكبر الموحدة" مقابل "أكثرية متعددة متشتة"
بعيداً عن المناخ والغطاء الإقليمي، ولكن ثمة عوامل محلية ساهمت بطريقة غير مباشرة بتكليف الرئيس ميقاتي بدل المرشح التغييري السفير نواف سلام، فما هي العوائق التي منعت الأكثرية المتعددة المشتتة من أن تصبح أكثرية حقيقية فاعلة؟
كتلة التغييريين 
أولى الاتهامات رميت وصوّبت باتجاه التغييريين، فعند كل استحقاق يظهر هؤلاء بأنهم مختلفين وإن توحدوا يكون توحدهم مشكوك بأمره، والخلاف ليس بالبسيط أو الهامشي، فمن الواضح أن بعضهم أقرب إلى طرح قوى الممانعة، والآخر متطرف بإتجاه مواجهة سلاح وخطاب الحزب، فلكل الباحثين عن مصير هذه الكتلة، لا مستقبل واقعي حقيقي لطروحات هذه الكتلة إلا بافتراق أعضائها وتشكيل كتلتين من التغييريين واحدة تتماهى بتحالفها مع فريق الممانعة وأخرى تتكتل مع الفريق المعارض الآخر، ويبقى السؤال ماذا عن المجموعات المعارضة الأخرى؟

 

المستقلون
اتفق بعض النواب على تسمية أنفسهم "مستقلين"، أما في الحقيقة فتخفي هذه المجموعة، مجموعة أصغر أو كتلة صغيرة من النواب المقربة من الرئيس سعد الحريري يتحكم الأخير بقرارتها، أما بقية النواب فلا شيء يشير حتى الساعة بأنهم جميعهم موحدين على مشروع أو على مواجهة مشروع كمشروع حزب الله.
القوات اللبنانية
أحد أبرز الأحزاب التي انتخبت الرئيس عون (مرشح حزب الله) إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية بعد اتفاق التسوية في معراب، خاض الانتخابات النيابية الأخيرة ضمن جبهة "سيادية" اعتبرت حزب الله "ميليشا إيرانية في لبنان" وخلاص لبنان يقتضي مواجهة هذا الحزب ومواجهة أي حالة يمكن أن تريحه أو تفيده.
اليوم حزب القوات اللبنانية هو "أكبر كتلة نيابية" من خارج اصطفاف تجمع قوى ٨ آذار الموالية لحزب الله.
ومنذ تلك التسوية المشؤومة التي أقدم عليها عام ٢٠١٦ لا يمرّ استحقاق إلا ويكون للقوات فيه "موقف ملتبس" حتى في انتخاب رئيس المجلس النيابي، اتُهم النائب القواتي ملحم رياشي بانتخابه الرئيس بري، في انتخاب اللجان ترأس النائب القواتي جورج عدوان لجنة نيابية بدعم يمتد إلى داخل الدائرة الموالية لحزب الله، وصولاً الى الاستحقاق الأخير الذي كان للقوات المسؤولية الأكبر في إيصال الرئيس نجيب ميقاتي (المدعوم من حزب الله) مرة جديدة إلى رئاسة الحكومة.
في ظل الحديث عن الاستشارات النيابية الملزمة "العلنية" لتكليف رئيس للحكومة العتيدة، دارت الاتصالات بين جميع الكتل والنواب الطامحين استعادة القرار السياسي في البلد من يد حزب الله، وبعد اتصالات مكثفة، كانت جميع الكتل بانتظار مواقف الكتل الأخرى، وبادر البعض منها إلى حسم خياره بتسمية السفير نواف سلام، إلا أن حزب القوات اللبنانية وبما يمثل، سارع لإعلان نيته عدم التصويت لأحد، ما أثار حالة من التراجع لدى أفرقاء أخرى كان من الممكن جمعهما على خيار نواف "الجدّي"، ما أفقد جدية هذا الطرح وتعددت التحليلات إلا أن نتيجتها المؤكدة كانت الإطاحة بأي مرشح ثانٍ بوجه الرئيس ميقاتي.

التحليلات التي حملّت القوات اللبنانية مسؤولية عودة ميقاتي وعدم حصول أي تغيير ارتكزت على تسويتين: 

الأولى : أكدت أن إتصالات حصلت بين الرئيسين برّي وميقاتي مع القوات لأخذ هذا الخيار مقابل تسهيل طلبات القوات في عهد ميقاتي الحالي والمتوقع أن يطول ويحكم مرحلة الفراغ التي ستتبع عدم انتخاب رئيس للجمهورية في موعده

الثانية : عدم تصويت القوات لمرشح جدّي بوجه ميقاتي أراح كتلة التيار الوطني الحر وأتاح لها المزايدة بعدم تسميتها للميقاتي وتأمين وصوله، رغم مطالبتها المشاركة في حكومته لاحقاً.
وبهذه الطريقة تكون القوات في قرارها الأخير رغم جميع التحليلات قد ساهمت مباشرة بإيصال ميقاتي وإراحة التيار الوطني الحر، وتسجيل مواقف سياسية "شعبوية" لأحزاب أخرى وضرب أي فرصة للتغيير.
جميع تلك الأسباب والقرارات التي سبقت الاستشارات النيابية لدى الأفرقاء التي ادعت مواجهة حزب الله، أدت إلى تسجيل نقطة جديدة للحزب واعتبار نتيجة الانتخابات الأخيرة قد أفرزت "أقلية كبيرة موحدة" مقابل "أكثرية متعددة متشتة ".

يبقى استحقاق الرئاسة الأولى في لبنان، بعد أقل من أربعة أشهر الاستحقاق الأهم والأبرز، فهل ستتوحد الأكثرية المتعددة المشتتة هذه المرة أم أيضا سنكون أمام تسوية رئاسية جديدة شبيهة بتسوية عام ٢٠١٦ التي أتت بمرشح حزب الله الرئيس ميشال عون؟