الدولار المصرفي في خانة التجاذبات: هل تُرك وزير المال وحيداً؟

يتقاذف المسؤولون أبوّة مشروع تعديل الدولار المصرفي، ويتراشقون بالتمنّع المتبادل عن تحمّل مسؤولية استكمال مسار توحيد اسعار الصرف استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي والمؤسسات المانحة ووفقاً للقواعد الصحية في أي اقتصاد يعاني من مشكلات بنيوية. فبعدما وحّد مصرف لبنان اسعار الصرف لديه، وبعدما أقر المجلس النيابي موازنة بسعر صرف موحد وكلاهما على 89500 ليرة، بقيت معضلة جبل الدولارات المصرفية التي تثقل كاهل المصارف ومصرف لبنان، وتثير الرعب من عودة تفلّت سعر الدولار في السوق في ما لو تم تماهي سعر الدولار المصرفي مع دولار السوق.

من هنا كان اقتراح يتيم الأبوين تم التداول به في الاسبوعين الماضيين في اروقة المحافل السياسية والمصرفية بتعديل سعر صرف الدولار المصرفي من 15 الف ليرة الى 25 الفاً للدولار الواحد، بَيد أن أحداً من أطراف السلطات السياسية والمالية لم يتبنَّ المقترح علانية بمفرده، وراح كل منهم يحيل المسؤولية على الآخر لإبعاد شبح الغضب الشعبي والنقمة المتوقعة لعدم مساواة الدولار المصرفي بأترابه من دولارات السوق والموازنة ومنصة مصرف لبنان.

وفيما كان متوقعاً صدور قرار التعديل عن وزارة المال بالتنسيق مع مصرف لبنان أمس، تمنّع الأخير إنسجاماً مع التزامه إستراتيجية توحيد أسعار الصرف من جهة، واستجابةً لشروط دولية في مقدمها صندوق النقد من جهة أخرى، وفي إصراره أيضا على استعادة الثقة والصدقية المفقودتين بين صندوق النقد والقطاع المصرفي ومصرف لبنان.

وعليه، نشأت أزمة مرجعية القرار بهذا الشأن، وبكيفية اصدار التعديل. فوزارة المال حاولت اصداره بالتنسيق مع مصرف لبنان، لكنها فشلت حتى الساعة بذلك، فيما رفض المجلس النيابي التطرق الى الموضوع معتبرا أنه خارج دوره وصلاحياته، أما الحكومة فتحاول رمي المسؤولية عند وزارة المال ومصرف لبنان.

بناء عليه، كثف وزير المال اتصالاته محاولا استخراج قرار مشترك مع مصرف لبنان أو إقناع رئيس الحكومة بتبنّي التعديل، لكن كِلا المحاولتين بقيتا حتى كتابة هذه السطور من دون جدوى، فيما تميل مصادر حكومية الى التأكيد ان قرار تعديل سعر صرف الدولار المصرفي سيصدر خلال الايام المقبلة بمرسوم من الحكومة، في ما لو عقدت جلسة لمجلس الوزراء هذا الاسبوع. وفي الانتظار تتكثف الاتصالات والمشاورات بين المعنيين برعاية سياسية من اعلى المستويات بغية ايجاد صيغة مقبولة من الاطراف كافة، وحتى لا يتحمل وزير المال وحده مسؤولية القرار.

خطوة يتيمة من دون الاصلاحات!

تؤكد مصادر متابعة أهمية توحيد سعر الصرف الذي هو اضافة الى كونه احد المطالب الاساسية لصندوق النقد الدولي، "يُعتبر خطوة مهمة في مسيرة التعافي في لبنان، ولكنه يبقى خطوة يتيمة من دون الاصلاحات الاخرى، حتى أنه قد يكون له دور سلبي ويخلق فوضى في السوق".

مصرف لبنان أنجز مهمته بتوحيد سعر الصرف، معتمدا سعر 89500 ليرة كسعر موحد للصرف. ولكن رغم اهمية هذه الخطوة فهي تحتاج وفق المصادر عينها الى ان يسبقها اقرار قانون "كابيتال كونترول"، وخطة التعافي المالي والمصرفي التي، وياللأسف، لم يقر أيّ منها في السنوات الاربع الاخيرة، وعلى ما يبدو فإن اقرار هذه القوانين متعثر. وبما ان مجلس النواب لم يقر سعرا جديدا للدولار المصرفي، فان السعر حاليا هو 89500 ليرة في حال لم يصدر عكس ذلك. ولكن المشكلة في التطبيق. فمصرف لبنان لا يستطيع اعادة اموال المصارف الموظفة لديه على سعر 89500 ليرة، ولا المصارف تستطيع اعادة الودائع على هذا السعر، وتاليا تم خلق فوضى في السوق يجب تداركها سريعا. وليس خافيا أن للمصارف مليارات من الدولارات مستثمرة لدى مصرف لبنان، وهي فعليا اموال المودعين، إذ تم استخدام 60 مليار دولار منها تقريبا لتمويل الدولة منذ العام 2010 ولغاية العام 2022، أنفِق منها نحو 25 مليار دولار لتمويل كهرباء لبنان والطاقة، ونحو 11 مليارا لدعم السلع والمحروقات الذي اقرته حكومة حسان دياب وأجبر مصرف لبنان على تمويله، فيما ذهب نحو 5 مليارات دولار لتمويل اليوروبوندز، ونحو 10 مليارات دولار نفقات متنوعة للدولة، بينها كلفة تثبيت سعر الصرف. وقد أقر بذلك كل من تقرير التحقيق الجنائي لشركة "الفاريز اند مارسال" وغيرها من شركات التدقيق في حسابات مصرف لبنان، واقر به ايضا مجلس شورى الدولة بحكم مبرم صدر عنه قبل ايام.

لذلك، ترى المصادر عينها ان "اعتماد سعر 89500 ليرة كسعر موحد للدولار هو مهم وضروري، ولكن ثمة استحالة تامة لتطبيقه من دون قانون كابيتال كونترول واضح. أما في حال طُبق من دون كابيتال كونترول، فذلك يعني ان على مصرف لبنان طباعة آلاف مليارات الليرات لتسديدها للمصارف، وهذا يعني ايضا وصول سعر صرف الدولار الواحد في السوق الى اكثر من مليون ليرة، اي انه يزيد المشكلة تعقيدا ويقضي على الاستقرار النقدي الذي بدأ منذ سنة تقريبا".

وفي السياق عينه، تعتبر المصادر أن "ابقاء سعر الدولار المصرفي على سعر 15 الف ليرة فيه ظلم كبير للمودع. لذا جاءت الخطوة والمبادرة من الحكومة ووزارة المال لإيجاد حل عملي، وتم الاتفاق مع مصرف لبنان على رفع سعر صرف الدولار المصرفي الى 25 الف ليرة على ان يضع مصرف لبنان قيودا وسقوفا للسحوبات". وترى "ان رفع الدولار المصرفي الى سعر 25 الف ليرة هو خطوة ايجابية ولو قليلا تجاه المودعين، خصوصا انه يمكن رفعه الى 25 الف ليرة من دون حصول ضغوط على سعر الصرف في السوق، اي يبقى الدولار في السوق على سعر 89500 ليرة، وبذلك يكون "الهيركات" على ما سُمي اللولار او الدولار المحلي قد انخفض بشكل ملحوظ".

وتختم بالقول: "ان كل ما يجري يبقى ترقيعا وليس حلا. والحل بإقرار القوانين الاصلاحية والكابيتال كونترول وايجاد حل عادل ومنصف لإعادة اموال المودعين مع الاعتراف بوجود خسائر يجب ان تتحملها الدولة ومصرف لبنان والمصارف قبل المودعين".

هل يفعلها وزير المال ويوقّع القرار بالتوافق مع مصرف لبنان، أم يترك هذا القرار للحكومة مجتمعة؟... الايام المقبلة تحسم الموضوع.