المصدر: المدن
الاثنين 15 أيلول 2025 11:13:50
"زاد قسط المدرسة نحو 500 دولار عن العام الماضي، وما زالت ابنتي في الروضة". بهذه العبارة المقتضبة يصف محمد، وهو أبٌ لابنتين، وقع الصدمة التي نزلت على عائلته مع انطلاق العام الدراسي الجديد. ويضيف، وهو يبتلع أنفاسه: "نعمل ليلًا ونهارًا، في وظيفتين وثلاث، كي نتمكن من تأمين تكاليف الحياة والمدرسة معًا".
لم يعد العام الدراسي موعدًا للفرح، ولا لحقيبة جديدة ودفاتر ملوّنة؛ بل صار عند الكثير من العائلات اللبنانية مرادفًا للقلق والرهبة. فمع كل بداية عام دراسي جديد، تنهال رسائل المدارس الخاصة على الأهالي: جداول جديدة، زيادات مفاجئة، ومطالبة بالدفع المسبق.
أزمة الأقساط هذه ليست طارئة؛ بل تاريخية، لكنها اليوم أشد وطأة؛ إذ تتداخل مع الغلاء المعيشي الخانق، وانهيار العملة الوطنية، والفوضى الأمنية، وانسداد الأفق أمام أي إصلاح تربوي. وهذا معطوف على أن المدارس الخاصة تشكل أكثر من 70 في المئة من قطاع التعليم في لبنان، وتحوّلت إلى سلطة قائمة في ذاتها، تتحكّم بمصائر الأُسر بلا رقيب ولا سقف، في حين أنَّ الأهالي يئنّون تحت عبء لم يعد يُحتمل، بين الخوف على مستقبل أبنائهم، والعجز عن تأمين حقهم في التعليم.
هجرة تعليمية داخلية
يلخّص رامي، الأب لثلاثة أولاد، جانبًا من معاناة الأهالي بقوله " ارتفع القسط قليلًا عن العام الماضي، لكن الأسعار الخيالية للقرطاسية والكتب والزيّ المدرسي أصبحت هي العبء الأكبر". لم تعد المشكلة محصورة في الأقساط؛ بل تحوّل العام الدراسي إلى سلّة نفقات متشابكة: كتب تُباع بالدولار، دفاتر وأقلام تعادل أسعارها نصف راتب، ولباس مدرسي باهظ الثمن يُفرض على الأهل كما لو أنهم يعيشون حياة ترف ورفاهية.
من جهته، يختصر خليل، وهو أب لطفلة، المأزق بكلماتٍ تحمل شيئًا من الاستسلام "نعم هناك غلاء، لكن ماذا بوسعنا أن نفعل؟ علينا أن نسير كما يسير البلد، فلا حلّ آخر". جملة تختزن حالة عامة يعيشها كثير من اللبنانيين، حيث تغدو الأزمة قدرًا محتومًا لا مجال لمواجهته أو كسر دائرته.
لكن في ظل هذا الانسداد، يحاول بعض الأهالي الالتفاف على الكلفة بالحفاظ على التعليم الخاص؛ إنما ضمن حدود أقل. محمد، أحد الآباء، يروي تجربته "اضطررت إلى نقل ابني من مدرسة خاصة إلى أخرى أقلّ كلفة. القسط خيالي، والراتب لا يكفي. ابني لم يتجاوز السادسة بعد، ومع ذلك يكلّفني أكثر من 3500 دولار سنويًا، عدا عن القرطاسية والكتب واللباس". هنا لم يعد انتقال التلميذ بين المدارس للبحث عن مستوىً تربوي أفضل؛ بل بات أشبه بـ"هجرة تعليمية داخلية" هدفها تخفيف الأعباء المالية، ولو على حساب المستقبل العلمي للأبناء.
هذه "الهجرة التعليمية" لا تقتصر على التنقل بين المدارس الخاصة نفسها؛ بل تتسع جغرافيًا من العاصمة إلى الأطراف. أسامة حرب، الأب لثلاثة أولاد، يصف الأمر بمرارة: "نقلت أولادي من بيروت إلى البقاع. لم يعد لدينا طاقة نفسية، ولا قدرة مالية لدفع ما تفرضه مدارس العاصمة".
في المقابل، ثمّة عائلات لا تمتلك حتى خيار التنقّل. مريم، وهي أم لابنتين، تعلن استسلامها بقولها: "غلّوا الأقساط، لكن لا نستطيع فعل شيء. نحن تحت الأمر الواقع. الأولاد يجب أن يتعلّموا، فهذا مستقبلهم".
مدارس للفقراء وأخرى للأغنياء؟
بين النزوح والرضوخ، تنحسر الخيارات وتضيق دائرة الأمل، في حين يبقى مستقبل الأبناء رهينة أقساطٍ تتحكّم بمصائر الأهل، أكثر مما ترعى حقّ أبنائهم في التعليم. وهذا الواقع ولّد ما يشبه "الفرز الطبقي" داخل المدارس. رنا، أمّ لأربعة أولاد، تصف الأمر، قائلة: "أحصل على حسم لأن أولادي متفوّقون، لكن المدارس اليوم باتت تفرز الناس. من يعجز عن الدفع يُشطب اسمه". وهكذا، لم تعد المدارس الخاصة فضاءً مشتركًا للتعليم؛ بل غدت أقرب إلى أندية مغلقة، لا مكان فيها لمن لم يعد قادرًا على تسديد الأقساط كاملة.
وراء هذه الشهادات تترسّخ حقيقة أعمق: التعليم الخاص في لبنان لم يعد مجرّد مسألة جودة أو خيار بين مناهج وأساليب؛ بل تحوّل إلى انعكاس مباشر للأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ففي الوقت الذي تُرفع فيه شعارات "حق التعليم للجميع"، تمارس المدارس الخاصة فعلًا معاكسًا؛ إذ تصنّف التلامذة وفق قدرة ذويهم المالية، وتعيد إنتاج الفوارق الطبقية على مقاعد الصفوف.
وليس هذا المشهد جديدًا في تاريخ التعليم اللبناني.
فمنذ عقود يتكرّر الجدل حول "الموازنات المدرسية"، وحق لجان الأهل في الاطّلاع عليها ومناقشتها. غير أنّ الإدارات غالبًا ما تحجب الأرقام، وتُبقي الأهالي أسرى قرارات أحادية: إمّا القبول والدفع، وإمّا الانسحاب والصمت.
الأخطر من ذلك أنّ "الملاذ البديل" المفترض؛ أي المدرسة الرسمية، ينهار بدوره. فالتعليم الرسمي منهار بفعل السياسات المتعاقبة، والبنى التحتية للمباني متصدّعة، والميزانيات شبه معدومة. ولم يعد الانتقال من المدرسة الخاصة إلى الرسمية حلاً حقيقيًا؛ بل غالبًا ما يعني تراجعًا في المستوى وفرصًا أقلّ للطلاب. وهكذا يجد الأهل أنفسهم عالقين بين خيارين كلاهما مُرّ: مدرسة خاصة تستنزفهم ماديًا وتقصي الفقراء، ومدرسة رسمية تترنّح على حافة الانهيار.
المعلمون أيضًا ضحايا
المفارقة أنّ المعلّمين أنفسهم ممتعضون، ولا يجنون شيئًا من هذه الزيادات على الأقساط. تقول معلمة في إحدى المدارس الخاصة بمرارة: "الأقساط مرتفعة، لكن الرواتب متدنية. الأهالي يدفعون الغالي والنفيس، في حين أنَّ المعلمين يعجزون عن تأمين قوتهم حتى نهاية الشهر".
أمّا الأهالي، فبينهم من يرى أنّ التذمّر وحده لا يُجدي. فادي زكور، أب لثلاثة أولاد، يقول: "كلّ عام تتكرّر الأزمة نفسها؛ أي الغلاء وضيق الحال. أستدين لأدفع الأقساط، لكن ذلك لا يكفي. لا بدّ من نزول الناس إلى الشارع لضبط الأقساط". غير أنّ هذه الدعوات غالبًا ما تبقى أسيرة الغضب الفردي؛ إذ لم ينجح الأهل بعد في تحويل وجعهم المشترك، إلى قوّة منظّمة قادرة على فرض إصلاح حقيقي، سواء على الدولة، أو على إدارات المدارس.
أزمة بلا نهاية؟
تبرّر المدارس الخاصة زياداتها الأخيرة بتضخّم الدولار، وارتفاع التكاليف التشغيلية أضعافًا، لكنها تظل غامضة في كشف حساباتها. لا أحد يعرف كم يذهب إلى الرواتب، وكم تُنفق فعليًا على المصاريف التشغيلية، وكم يدخل إلى جيوب الإدارات. ووزارة التربية، التي يفترض أن يكون لها الدور الرقابي والضامن للحق بالتعلّم، غائبة أو متواطئة. النقاش حول "الموازنات" و"حقوق الأهل" يتكرّر كل عام، لكنه لا يتحوّل إلى أيّة آلية فعلية لضبط الأقساط، أو حماية الأهالي.
في هذه البيئة، يظل الأهالي يدفعون، ويئنّون، ويصرخون في فراغ. بعضهم يرضخ، وبعضهم يهاجر إلى مدارس أبعد وأرخص، وبعضهم يحلم بخيار ثالث لا يأتي أبدًا. أما الأطفال، فهم في هذا المشهد مجرد رهائن في معركة مفتوحة بين إدارة تبحث عن الأرباح، ودولة عاجزة، وأهالٍ مستنزفين.
غياب الدولة بوصفها ضامناً وحامياً للحقّ في التعليم، يجعل كل سنة دراسية جديدة معركة مفتوحة؛ يتقدّم فيها الجشع على حساب العدالة، والتمييز على حساب تكافؤ الفرص، ليصبح مستقبل الأطفال باهظ الثمن في أزمة لا تنتهي.