المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
السبت 22 تشرين الثاني 2025 00:50:15
في مثل هذا اليوم، كان يُفترض أن يخرج اللبنانيون إلى الساحات ليرفعوا العلم، وأن تتقدّم فصائل الجيش في عرضٍ عسكري يُذكّر الناس بأن لهذا البلد دولة وجيشاً وطقوساً. لكن هذا العام، غابت كلّ مظاهر عيد الاستقلال. لا منصّات، لا احتفال رسمي، ولا حتى محاولة لتجميل المناسبة. وزارة الدفاع ألغت الفعالية، ورئاسة الجمهورية قرّرت الاكتفاء بتقليد أوسمة لرجالات الاستقلال.
ستة أعوام من الانهيارات المتتالية تركت الجيش في وضع لا يشبه تلك الصورة اللامعة التي تتكرر في كتب التربية. الجيش الذي يفترض أنه العمود الفقري للاستقلال، يعيش اليوم أوضاعاً صعبة. رواتب العسكريين تراجعت قيمتها إلى ما دون الحدّ الأدنى. عسكريون يعملون ليلاً في مهن إضافية كي يصمدوا، وآخرون يتركون الخدمة كلما وجدوا فرصة للهجرة. وسط ذلك كله، الضغوط التي تعيشها المؤسسة وقائدها، حدود مستباحة، سماء مفتوحة للطيران الإسرائيلي، وبلد يعيش اليوم على إيقاع التهديدات لا على إيقاع الاحتفالات.
الجيش الذي حُرم من الحياة الكريمة
منذ 2019 حتى اليوم، خسر العسكري اللبناني معظم قيمة راتبه. تدحرجت الليرة، وتدحرج معها كل ما يضمن للعسكري حياة محترمة. فجأة صار الجندي يشتغل بعد خدمته بمهن عدّة. ومن لم يحتمل، ترك الخدمة أو سعى إلى الهرب.
الجيش، الذي كان "المؤسسة الوحيدة المتبقية في البلد"، صار هو نفسه بحاجة إلى من يسنده. ومع ذلك، يُطلب منه اليوم مواجهة تحدّيات أمنية هائلة، بعد حرب تركت الجنوب مشرّعاً والخوف مفتوحاً على كل الاحتمالات.
العائلة التي أورثت أولادها حبّ العلم
في أحد المراكز، يقف شاب في العشرينيات، يزيح بيده شيئاً من الضباب المتراكم فوق المشهد اللبناني كلّه، ويرفع رأسه بثقةٍ يداخلها قدرٌ من البراءة. يقول لـ"المدن": "مذ كنتُ صغيراً، كان حلمي أن أنضمّ إلى الجيش". تتشكّل على وجهه ابتسامة فيها عنادٌ يشبه عناد القرى والبيوت التي تربّى فيها، ويضيف بثقة لا تخلو من التمنّي: "الوضع سيتحسّن… لا بدّ أن يتحسّن".
وعلى المقلب الآخر، يقف عسكريٌّ مخضرم، يحمل في صوته تعب السنوات الأخيرة أكثر مما يحمل من الكلمات. يقول لـ"المدن": "بسبب الظروف الماضية، اضطررتُ إلى العمل سائق توصيل بعد الدوام. في بداية الأزمة الاقتصادية تأذّى جميع اللبنانيين. لكنّهم عادوا وتكيّفوا، ورتّبوا أمورهم… أمّا نحن فبقينا في عين العاصفة".
ليس وحده في ذلك الهم. فثمة جندي آخر، يشير إلى حقيبته المتهالكة كأنها مرآة حياته، ويقول: "أنا أعيل ثلاثة أطفال. الراتب لا يكفيني لأسبوع. أتناوب بين الحراسة والعمل الليلي في متجر صغير. أنام ساعتين أو ثلاثًا ثم أعود إلى الخدمة. أحبّ هذه البزّة، لكنّني أعاني".
بهذه الحكايات الصغيرة، يظهر الجيش كما هو اليوم: أفرادٌ يحاولون التمسّك بالمؤسّسة التي يحبّونها، فيما البلاد تتهاوى من حولهم، ويُطلب منهم، رغم كل ذلك، أن يبقوا واقفين.
لبنان الذي لا يحتفل… لأنه لم يكتمل بعد
صحيح أن 22 تشرين الثاني 1943 سجّل خروج الانتداب الفرنسي، لكن كل ما تلاه حوّل معنى "الاستقلال" إلى عبارة شاعريّة، تُردَّد أكثر مما تُعاش. فالمناهج التربوية تبالغ في تقديس الرموز: العلم، النشيد، القلعة، رجالات الاستقلال… لكن الطالب نفسه، عندما يكبر ويخرج إلى الحياة، يكتشف أنّ كل ذلك جميل على الورق فقط. لا سيادة كاملة. لا قرار واحد. لا عدالة اجتماعية. لا مؤسسات تعمل. بلدٌ بنى هويّته على الشعارات، من دون أن يبني دولة. صار الاستقلال احتفالاً بلا مضمون، ورمزاً بلا أسس تحمله.
غابت مظاهر العيد هذا العام، ليس فقط بسبب الحرب، بل لأن البلد بدا كمن فقد القدرة على الاحتفال. أما اللبنانيون فباتوا يعلمون جيداً أنّ الاستقلال ليس تاريخاً يُحفظ، ولا نشيداً يُتلى، ولا عرضاً يُنقل مباشرة على الهواء، بل يفترض أن يكون منظومة حقوق، وواجبات، وعدالة، ودولة تحمي أبناءها قبل حدودها. أمّا لبنان فقد بقي بعيداً عن هذه القيم، وظلّ بارعاً في إنتاج رموزه وتقديسها، وفشل في إنتاج وطنٍ لأبنائه.