باراك في بيروت: صراع الخيارات الصعبة

منذ آموس هوكشتاين موفد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن للبنان إلى مورغان أورتاغوس نائبة المبعوث الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، والتي لم تطل مهمتها، إلى توماس باراك سفير الولايات المتحدة الأميركية في تركيا والمبعوث الخاص لسوريا ولبنان،  في كل مرة ينتظر اللبنانيون زيارة المبعوث الأميركي لمعرفة ما سيؤول إليه مصير البلاد مع التهديدات الإسرائيلية المستمرة بإمكانية شن حرب جديدة ، في حال تنصّل حزب الله وعدم قبوله تسليم السلاح الثقيل، وتنفيذ ما تعهّد به رئيس الجمهورية جوزاف عون والحكومة.

 

زيارة باراك الثانية

هذه المرة، أطل باراك في زيارته الثانية ليستلم الرد اللبناني على الورقة الأميركية. وبالرغم من كل ما أحاط اللقاءات من أجواء وُصفت بالإيجابية، إلا أن الواقع يشير إلى رمادية في الموقف الأميركي حيال الملاحظات اللبنانية، ووضع لبنان أمام خيارات أحلاها مر.

فمع التنصّل من الضمانات بالحفاظ على وقف إطلاق النار ولجم إسرائيل عن خروقاتها، أُضيف إلى ذلك نعي دور لجنة "الميكانيزم" المختصة بالتنسيق مع الجيش اللبناني حول الكشوفات على المناطق التي تعتقد إسرائيل أن هناك سلاحًا لحزب الله فيها، مما يعني إمكانية أكبر لتنفيذ مزيد من الاعتداءات في الأيام القادمة.

فما هو فحوى اللقاءات الجدية بعيدًا عن المزايدات، إن كان لناحية التطمين الزائد أو التهويل الحاصل؟

 

باراك يحسم المسؤولية

بدا واضحًا أن باراك كان ممتنًّا لسرعة الرد اللبناني والعمل الجاد الذي بُذل خلال الفترة الماضية لصياغة موقف موحّد يأخذ بعين الاعتبار مطالب حزب الله، ولكن لا يبني كل الرد عليها.

فالولايات المتحدة، وخلفها إسرائيل، تفاوض، هذه المرة،  لبنان لا حزبًا داخله، والمسؤولية، وبكل وضوح، تقع على عاتق الدولة المعنية بأي خطر قد يطرأ مجددًا إذا ما تعثرت المفاوضات. وهو ما أوضحه باراك بعبارة:

"أليس حزب الله حزبًا سياسيًّا في لبنان؟ هل تعتقدون أن دولة أخرى ستقوم بحل حزب سياسي في دولة تتمتع بسيادة؟ هذه مشكلتكم، عليكم حلّها."

هو تصريح يحمل تأويلات عدة:

أولها: الاعتراف الواضح بدور الحزب في الدولة، وأن المطروح ليس منعه من ممارسة العمل السياسي، بل تحجيم دوره العسكري.

والثاني: أن الدولة، بشخص رئيسها وحكومتها، هي من عليها أن تتصرف مع الحزب، ولا دور لأميركا وإسرائيل في هذا الأمر سوى انتظار نتيجة حاسمة وواضحة تقدّمها الدولة اللبنانية وتتبناها.

قد تجرّها هذه النتيجة إلى صراع داخلي في حال الموافقة على مطلب نزع السلاح دون موافقة حزب الله، أو إلى صراع خارجي في حال عدم قدرتها على إقناع الحزب بضرورة تجنب الصراع والذهاب نحو الحل الدبلوماسي.

إلا أن ما يطلبه حزب الله هو إلزام إسرائيل أيضًا بوقف اعتداءاتها، وإنهاء احتلالها، وعدم تدخلها في الشؤون الداخلية اللبنانية، ريثما يتم الاتفاق على حوار حول الاستراتيجية الدفاعية، وهي كلمة لا يرى فيها الأميركي بذور حل تؤدي إلى إنهاء الصراع.

فالاستراتيجية الدفاعية مطروحة منذ زمن بعيد، أي ما قبل الحرب، ولم تؤدِّ إلى أي واقع ملموس حول إنهاء الصراع.

 

الرد اللبناني المفصّل

خمسة عشر نقطة تضمنها الرد اللبناني على ورقة باراك، تشتمل على ملاحظات أبرزها:

ضمان إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.

وقف خروقاته.

الذهاب بخطوة تقابلها خطوة، وليس خطوات فقط من قبل الجانب اللبناني من دون أي التزام إسرائيلي.

وتشير مصادر متابعة لجريدة "المدن" إلى أن هذا الرد ليس ردًا نهائيًا، بل هو محط نقاش مع باراك وفريقه، بمعنى أن الجانب اللبناني يفتح باب الحوار من دون فائض من الوقت، مع الجانب الأميركي، لإبقائه في إطار الضامن للجم إسرائيل من شن حرب جديدة. لأن ورقة باراك أساسًا سيتم عرضها على الجانب الإسرائيلي، الذي قد لا يعجبه رد لبنان ويعتبره مماطلة أخرى لمحاولة ترميم حزب الله لقدراته العسكرية من جديد.

ففي عهد هوكستين، كان التوصل إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل في أيلول قاب قوسين أو أدنى، قبل أن ينقلب نتنياهو على كل المحاولات، حينما سمحت له الفرصة لاغتيال أمين عام حزب الله حسن نصرالله، وشنّ حرب شاملة على بيئة الحزب.

من يضمن هذه المرة أنه لن يعيد الكرّة؟

 

دور نبيه بري

في كل زيارة لأي مبعوث أميركي، يبرز واضحًا الدور المختلف الذي يلعبه رئيس مجلس النواب نبيه بري، فهو الحليف الأقرب لحزب الله، وكلمته ذات وزن عند التنظيم الأصفر.

أي أنه ليس كما حاول أن يصوّره البعض كساعي بريد يستلم رسائل وينقلها، بل إن بري اليوم يلعب دورًا كبيرًا في محاولة النهوض بالطائفة الشيعية مجددًا، بالتنسيق التام مع الحزب.

 

الهاجس الأساسي لديه هو موضوع إعادة الإعمار في الجنوب وعودة أبناء القرى الحدودية إلى بيوتهم، وهو أمر يدرك رئيس المجلس صعوبته في حال عدم التوصل إلى اتفاق نهائي يعالج كل الأمور العالقة، والتي ما زالت تتسبب بتوترات عند الحدود اللبنانية - الفلسطينية.

 

مصادر متابعة للقاء بري – باراك أكدت لـ"المدن" أن رئيس البرلمان يحاول أن يوازن بين واقع الحال، والحفاظ على السيادة اللبنانية، ولجم اعتداءات إسرائيل، وعدم السماح بكسر حزب الله عن طريق عملية "الخطوة بخطوة"، ومحاولة بناء تفاهم داخلي حول سلاح حزب الله بحوار يشارك فيه الحزب، وأخذ ضمانات بالمباشرة الجدية بموضوع إعادة إعمار الجنوب.

 

وهو ما يوافق عليه حزب الله، الذي يولي ثقة كبيرة لمواقف الرئيس نبيه بري، بل ويلزم نفسه بها، من منطلق معرفة بري بمقتضيات الأمور وموازنته الأوضاع الإقليمية والداخلية.

 

وفي هذا الإطار، فإن مصادر الرئيس بري تشير لـ"المدن" إلى أن علاقة باراك – بري متينة وتحمل في طياتها صداقة قديمة. وقد أبدى باراك أمام بري إعجابه شخصيًا بإحاطة الأخير بالأوضاع الإقليمية، وليس فقط المحلية.

واستطاع إقناعه بالمخاوف اللبنانية من محاولات إسرائيل الدائمة في الانقلاب على كل اتفاق، مما جعل باراك متفهّمًا وبشكل واضح لجميع الملاحظات الواردة.

 

وهو أمر، بالطبع، سيسعد حزب الله، ذلك أن الموفد مقتنع بأن هناك نقاطًا لبنانية منطقية لا يمكن غضّ النظر عنها. كما أن هناك شبه اتفاق على الموضوع المرتبط بين لبنان وسوريا لناحية ترسيم الحدود البرّية وغيرها من المواضيع العالقة، والتي ستُنجز من ضمن الورقة الشاملة، مما يعني، في حال نجاح المفاوضات، التخلّص من مشكلتين بدلًا من واحدة.

 

بين بين "أميركي"

وعليه، فإن الزيارة هذه المرة يصلح لها عنوان:

"ما بين بين".

والمعنى أنها ما بين اعتراف أميركا بأن حالة حزب الله لا يمكن إنهاؤها كليًّا، وأن الدولة هي المعنية برسم دور الحزب داخلها، وما بين الإشارة إلى عدم قدرة الطرف الأميركي على تقديم ضمانات من شأنها إلزام إسرائيل بعدم توسيع عدوانها أكثر.

فهل ستكون لباراك محطة لبنانية جديدة عمّا قريب، بعد مناقشة الملاحظات اللبنانية وإطلاع إسرائيل عليها؟