بالتفاصيل- هكذا سقطت وثيقة التفاهم...على قاعدة ما كُتِبَ قد انتهى

على تخوم الضاحية الجنوبية لبيروت وفي كنيسة مار مخايل وقّع حزب الله والتيّار الوطنيّ الحرّ منذ خمسة عشر عاماً وثيقة تفاهم مشتركة أعادت خلط الأوراق المحلّيّة التي أنتجتها ثورة الرابع عشر من آذار من العام ٢٠٠٥، لتُطلق بذلك جبهة سياسيّة جمعت من فرّقتهما أغلبيّة الدّروب على مدى عقدين من الزّمن. 

تساؤلات كثيرة تُطرح حول إلتزام الطّرفين بمضمون الوثيقة أو المدى الذي بلغته بنودها على أرض الواقع بين التنفيذ أو الاضمحلال. لا شكّ أنّ المرحلة التي تلت تاريخ السادس من شهر شباط من العام ٢٠٠٦ حتّى يومنا هذا قد شهدت أحداثاً مهولة على الساحة اللبنانية والاقليمية، لكن يبقى اتّخاذ تاريخ ٣١ تشرين الأول من العام ٢٠١٦ أيّ تاريخ وصول العماد ميشال عون أحد طرفيّ الوثيقة إلى سدّة الرئاسة كمنطلق لمقاربة بنودها أكثر براغماتيّة، ذلك إسقاطاً لأيّ حجّة ممكن أن تُطرح على بساط البحث عن عدم امتلاك طرفيّ التفاهم مفتاح القيادة لتنفيذه حرفياً، خاصّةً أنّهما في عهد الرئيس عون يُسيطرون على الأكثريات النيابية، الوزارية، القضائية، الأمنية ويتحكّمون بأغلبيّة مفاصل الدولة والمؤسسات العامّة. 

إنّ مشاركة حزب الله عسكرياً في الحرب السورية أخذت الحيّز الأكبر من السّهام التي طالت تفاهم مار مخايل كونها أتت لتُصوّب مباشرةً على الادّعاء الذي شهره "التيّار" بوجه خصومه حول نجاحه في استقدام الحزب إلى الاطار اللبناني، وفق ما ينصّ عليه البند العاشر من الوثيقة حول أنّ "سلاح حزب الله يجب أن يأتي من ضمن مقاربة شاملة تقع بين حدّين: الحدّ الأول هو الاستناد إلى المبررات التي تلقى الإجماع الوطني... من خلال حوار وطني يؤدي إلى صياغة استراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون وينخرطون فيها عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها".

هنا تُطرح العديد من التساؤلات حول انعدام التوافق اللبناني على المشاركة العسكرية الخارجية لحزب الله كما غياب شتّى قرار لبناني رسمي يُنظّم أو يرعى ذلك، فبالرّغم من أنّ انخراط الحزب في المعركة الاقليمية في الداخل السوري قد سبقت تولّي الرئيس عون مهامه الرئاسيّة، لكنّ الأخير ومعه تيّاره السياسي قد نأوا بأنفسهم تماماً عن جوهر تفاهمهم مع الحزب لا بل ساهموا بتغطية قراره الآحادي فوق إرادة الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعيّة.

الاستراتيجيّة الدفاعيّة التي تضمّنتها الوثيقة، قد وعد الرئيس عون بالدّعوة لطاولة حوار حولها عشيّة الانتخابات النيابية العامّة عام ٢٠١٨، لينكفىء عن دعوته هذه بعد انقضاء الانتخابات وفوز تيّاره بكتلة وازنة كما بعد مرور أكثر من عامين ونصف على ذلك. وهنا يسقط بالتّوازي بند "الحوار" الذي يتصدّر الوثيقة مع ما يدعو إليه من "تغليب المصلحة الوطنية على أي مصلحة أخرى، وذلك بالاستناد الى إرادة ذاتية، وقرار لبناني حر وملتزم... شمول كل القضايا ذات الطابع الوطني، والتي تقتضي التوافق العام". فأين الإرادة اللبنانية بالانجرار خلف القرار الايراني الاقليمي بفتح جبهات أمنية وعسكرية من دمشق حتّى اليمن والعراق؟ وأين التّوافق العام من قضيّة إدخال لبنان في صراعات المنطقة؟

أكثر ما يُغلّف وثيقة تفاهم ٦ شباط بالسّواد هو البند الخامس الذي يدعو إلى طيّ صفحة الماضي وإجراء المصالحة الوطنيّة الشاملة عبر كشف مصير المفقودين خلال الحرب وهنا يُسأل "الحزب" و"التيار" معاً عن الذي فعلاه لجلاء مصير المعتقلين في السّجون السورية، خصوصاً أنّهما حالياً من أكبر حلفاء للدولة السورية المتمثّلة بنظام آل الأسد، فما الخطوات التي اتّخذها رئيس لبنان لأجل ذلك خاصّةً أنّ رئيس "التيار" النائب جبران باسيل قد تولّى حملات الدّفاع عن الرئيس السوري بغية إعادته لحضن الجامعة العربية؟ وما الذي فعله الحزب الذي رفع شعار الدفاع عن اللبنانيين في انخراطه بالحرب السورية لأجل المساهمة بالكشف عن مصير آباء وأبناء الشعب اللبناني مع حليفه المُفدّى في الشّام؟

بند المفقودين يتجلّى بالتّفصيل في بند "العلاقات اللبنانية السورية" حيثُ يُضاف إليه فشل حزب الله والتيار الوطني الحر في الاستحصال على وثيقة رسمية أيّ اعتراف مُثبّت من حليفهما السوري حول لبنانيّة مزارع شبعا ليقبع ترسيم الحدود تحت فلتان التّهريب والتّهريب المعاكس.

الديمقراطيّة التّوافقيّة وقانون الانتخاب حضرا بشكل مُبهم في صلب الوثيقة، ليتمّ الإطاحة بهما معاً مع عودة حزب الله وحلفائه الآخرين للمطالبة بإعتماد لبنان دائرة واحدة وفق النّظام النّسبي مُسقطين بذلك صفة التّوافقيّة عن الديمقراطيّة، ضاربين بعرض الحائط "التجسيد الفعلي لروح الدّستور ولجوهر ميثاق العيش المشترك"، وفق ما ذكره التّفاهم.

بند العلاقات اللبنانية الفلسطينية بقي حبراً على ورق الوثيقة وتحديداً في قسمه الأخير الذي يدعو إلى "معالجة ملف إنهاء السلاح خارج المخيمات وترتيب الوضع الأمني داخلها... بما يؤدي الى بسط سلطة الدولة وقوانينها على كافة الأراضي اللبنانية"؛ بحيث شهدنا ما يُشبه توجيه الرسائل "المحلّيّة" ذات الانعكاس الاقليمي والتي غطّت استعراض السّلاح الظاهر داخل المخيمات في استقبال أحد قادة الفصائل المنضوين في محور طهران ودمشق.

عهد الرئيس عون الذي أتى بشقّ أنفس اتّفاق معراب ومن رحم عامين ونصف من التّعطيل والفراغ المنظّمين، شكّل فرصة حقيقيّة لترجمة بند "بناء الدولة" وتحويل هذا القسم من الوثيقة إلى فعل مؤسساتي؛ لكن بعد مرور أكثر من أربعة أعوام على انقضاء العهد أثبت الحزب والتيار أنّهما قد مارسا نقيض ذلك تماماً، حيث أنّ "اعتماد معايير العدالة والتكافؤ والجدارة والنزاهة" قد أُطيح بهم مع ترسيخ الزبائنيّة السياسيّة من التوظيفات إلى التّعيينات؛ و"الاستقلالية التامة لمؤسسة القضاء" قد سقطت بشكل صارخ مع الاعتراض السياسي على التشكيلات القضائية التي أقرّها مجلس القضاء الاعلى؛ ومعالجة الفساد من جذوره عبر "تفعيل مؤسسات ومجالس الرقابة" قد تدحرجت إلى مستنقع التّعنّت الوزاري مع رفض إخضاع المناقصات للادارات المختصّة وحصر القرارات بسطوة الوزير الحاكم بإسمه وإسم وُلاة نعمته؛ و"العمل على إصلاح إداري شامل يكفل وضع الشخص المناسب في المكان المناسب" قد تحوّل إلى مهزلة وطنيّة مع تقاسم "الحزب" و"التيار" آلاف الوظائف مع تيّارات أخرى عشيّة إنتخابات ٢٠١٨ حيثُ اعتُمدت الوساطة السياسيّة وشراء الذّمم كمعيارٍ أوحد لذلك.

كلّ ما سبق في كفّة، والبند الملك أو البند السّابع أيّ "المسألة الأمنيّة" في الكفّة المقابلة. فمع تخطّي عدم إلتزام حزب الله بالاعتراف بالمحكمة الدولية التي اتّهمت  أحد قادته بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومع المرور على صمت التيّار الوطنيّ الحرّ إزاء ذلك؛ تبقى قضيّة الاغتيال السياسي التي ترد في المادّة الأولى الشّعرة التي قسمت ظهر الوثيقة: "إنّ كلّ شكل من أشكال الاغتيال السياسي هو أمر مدان ومرفوض لتناقضه مع الحقوق الأساسية للإنسان، ومع أهم ركائز وجود لبنان المتمثلة بالاختلاف والتنوع، ومع جوهر الديموقراطية وممارستها".

"كلّ شكل من أشكال الاغتيال السياسي" وهنا لا نتحدّث عن الاغتيال الجسدي لأنّنا سلطة رابعة لا ثالثة، لكنّ الاغتيالات المعنويّة والفكريّة والوجوديّة التي مارسها حلفاء التّفاهم قد شكّلت وصمة سوداء في تاريخهما حيثُ أسقطا التّعبير عن الرأي من مرتبة الحرّية إلى درك التّحريم والتّجريم والتّخوين؛ من ملاحقة نشطاء مواقع التّواصل الاجتماعي لتوقيفهم وصولاً للاعتداء بالضرب على ثوّار ١٧ تشرين لمجرد رفعهم شعارات سياسيّة مناقضة للمنظومة الحاكمة، هذا عدا عن وصف كلّ معارض لسياسة حزب الله من الطائفة الشيعيّة بأنّه إمّا من "شيعة السفارات" أو "عميلاً للعدوّ" أو ربيب لأجندات خارجيّة، حيثُ يتعرّض وأفراد عائلته لأشنع الاغتيالات المعنويّة والتي قد تُمهّد لتصفيته جسدياً، وشهادة المفكّر "لقمان سليم" تتكلّم.

ضفاف العهد الذي لم يتكوّن إلّا بعد حرق كتاب سوريا الأسود في لبنان، وتجميد التّداول بكُتيّب الابراء المستحيل، من ثمّ الانقلاب على البنود السياديّة العشر في اتّفاق معراب، لم ترضَ إلّا باحتضان وثيقة تفاهم مار مخايل على قاعدة "ما كُتِبَ قد انتهى".