بين التسويات أو الإكتفاء بتقليب صفحات الأزمة

أنهى الموفد الأميركي توم باراك جولته في بيروت، حاملاً في جعبته ملاحظات واشنطن ومقارباتها للملف اللبناني المعقد، ومغادراً بردّ لبناني رسمي حرص على أن يكون متوازناً، محكوماً بميزان دقيق من الحسابات السياسية والأمنية، واللافت في المحادثات التي أجراها باراك مع الرؤساء الثلاثة أنها جرت في أجواء من المصارحة والواقعية. وقد بدا واضحاً أن الموفد الأميركي قد التقط حساسية الوضع اللبناني وتعقيداته، لا سيما ما يتعلق بسلاح «حزب الله» ودوره في المعادلة الإقليمية، وما يطرحه ذلك من تحديات أمام فكرة حصرية السلاح وقرار الحرب والسلم بيد الدولة في ظل الواقع الداخلي الحرج، والتوازنات الإقليمية الدقيقة..
وقد ركّز باراك في مؤتمره الصحفي على أربع نقاط رئيسية، أولها ترك معالجة مسألة سلاح حزب الله للدولة. وثانيها، ضرورة الإسراع في الإصلاحات المالية والإدارية المطلوبة، لإستعادة الثقة في الداخل والخارج. وثالثها، التأكيد على قدرة اللبنانيين على النهوض ببلدهم من جديد، وهم الذين ساهموا في تحويل الصحراء إلى مدن حديثة في أبو ظبي ودبي. أهمية أن يكون لبنان واعياً للمتغيرات الجارية في المنطقة، ليعمل على اللحاق بها حتى لا يكون معزولاً في محيطه الجغرافي والإقليمي. 
الرد اللبناني، من جهته، سعى إلى تأكيد الالتزام بالثوابت الوطنية، خصوصاً في ما يتعلق بالسيادة، ورفض الضغوط، مع عدم إغلاق الباب أمام الحوار والتدرج في المعالجة، بما يحفظ السلم الأهلي ويمنع الانزلاق إلى المجهول. وهو ما قد يفسَّر على أنه تلاقٍ جزئي مع الطرح الأميركي القائم على «الخطوة مقابل خطوة»، لكن وفق صيغة لبنانية، أعلنها رئيس الحكومة نواف سلام من السراي، تأخذ في الاعتبار ضرورة التزامن في الخطوات لا التسلسل.
ما بعد زيارة باراك، سيكون اختباراً حقيقياً لنية الأطراف المحلية والإقليمية في سلوك طريق الحل، لا إدارة الأزمة فحسب. فالمبادرة الأميركية لن تتوقف هنا، بل ستخضع للتمحيص في ضوء الرد اللبناني، ما يُبقي الباب مفتوحاً أمام مزيد من الوساطات والمفاوضات.
لكن يبقى التحدي الأساسي في قدرة الدولة اللبنانية على الإمساك بزمام المبادرة، وطرح رؤية وطنية جامعة تنطلق من الثوابت الدستورية، وتستند إلى توافق داخلي يوفّر الغطاء السياسي لأي حل مستقبلي.
فهل تنجح بيروت في تحويل لحظة باراك إلى مدخل للحل، أم أنها ستعود إلى دوامة الانتظار والتجاذب؟ 
الإجابة رهن بإرادة الداخل أولاً، وبمناخات الإقليم ثانياً، وبما إذا كانت واشنطن جادة في فتح باب التسويات، لا الاكتفاء بتقليب صفحات الأزمة.