بين “الولائيّة” و”النجفيّة”: شيعة لبنان ضحيّة “الأدلجة” و”تغييب” الإمام الصدر

شأنهم شأن الموارنة، رأى الشيعة في جبال لبنان وهضابه، منذ ما بين القرنين السابع والثامن الميلاديّين، ملاذاً آمناً بعيداً عن اضطهاد الأمويين والعباسيين لهم، أي منذ القرون الأولى للإسلام. ولقد انطلق دعاتهم يعززون معقلهم التاريخي في جبل عامل في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين في ظلّ الدولة الفاطمية، ولقد أصابهم ما أصاب الموارنة من اضطهاد مملوكي وعثماني، واستطاعوا الصمود والحفاظ على الهوية والوجود رغم التنكيل. ولعلّ “العذاب المشترك” قد حضّر، في وعي اللبنانيين، أو لا وعيهم، اللبنة الأساسيّة للوطن الفريد بتنوّعه، والمتعلق بالحريّة التي بدونها لا معنى للبنان.

الفقه العاملي أساس التشيّع المنفتح

من جبل عامل انطلق الفقه الجعفري، وبرز التشيّع “الإثني عشري”، وحمله فقهاؤه إلى إيران في العهد الصفوي تعليماً، من جهة، أو هرباً من الاضطهاد من جهةٍ أخرى، فلقد استشهد علماؤهم، كـ”الشهيد الأوّل” الشيخ محمد بن مكي الذي أعدم في دمشق سنة 1383م، و”الشهيد الثاني” الشيخ زين الدين العاملي، والذي كان عالماً موسوعيّاً ومتسامحاً منفتحاً، ومجدداً، متخصصاً بكل مذاهب الإسلام، بحيث أصبحت مدرسته الفكرية والدينية آنذاك أساس الحوزة العلمية، فاغتاله العثمانيون سنة 1559م، فسمّيَ جبل عامل مذّاك “أرض الشهداء والعلماء”.

بين تصدير “النجفيّة” واستيراد “الولائيّة” الخمينيّة

إذا كانت الإمامة منصباً إلهيّاً لا مجرد قيادة سياسيّة، وهي تقوم على “العصمة” عن الخطأ، وعلى “الغيبة”، أي أنّ الإمام الثاني عشر، والذي غاب عن الأنظار سنة 260ه سيعود، ففي غياب الإمام نعتمد “الاجتهاد والتقليد” من قبل المرجع الديني، أي السيستاني أو الخامنئي، كما هو الحال اليوم. وعليه، فإنّ الصراع محمومٌ بهدوء بين المرجعيّتين، وللأسف، تدفع شعوب “وحدة الساحات”، والشيعة خاصةً، ثمنَ عدم الحسم، لا بل ثمن الرضوخ للخمينيّة.

فبينما تعتبر “الولائيّة” الخمينيّة أنَّ الفقيه، كالمرشد الإيراني خامنئي مثلاً، هو الوليُّ المطلق الصلاحيّة، وهو يملك السلطة السياسيّة والدينيّة العليا، وله حق القيادة، ولهذا يربط حزب الله قراراته وقيادته بهذا الوليّ الفقيه، ترفض النجف (مدرسة السيستاني) ولاية الفقيه بالمفهوم السياسي المطلق، وتحصر دوره بالرعاية الأخلاقيّة والاجتماعيّة. ومعروفٌ موقف السيستاني برفضه التورط المباشر في الحكم، ودعوته لفصل نسبي بين الدين والدولة، وإرشاده بأنّ الحكم ليس من اختصاص رجال الدين، بعكس الخمينيّة التي تقوم على الدولة الإسلاميّة، وتعمل على تصدير “الثورة” عبر أذرعها إلى العالم. وإذا ما راجعنا مواقف الإمام موسى الصدر، والعلامة محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وأمثالهم في لبنان مثلاً، لرأينا أنهم ممثلو هذا الخط النجفي الذي تأثر بفقهاء جبل عامل التاريخيين، والذين صدّروا للشيعة في العالم أُسُس الفقه الجعفري المتسامح والمنفتح والمُجدِّد، ورمز التشيّع اللبناني والإمامي عامةً.

موسى الصدر والدور الشيعي المتصاعد

من أخطاء دولة لبنان الكبير أنّ الشيعة في لبنان، والذين لم يستسيغوا ضمّ الأقضية في الجنوب والبقاع في البداية لهذا اللبنان، ومن أخطاء دولة الاستقلال، والمارونيّة السياسيّة بالتحديد، أنّ “الصيغة” قامت على نفوذ الموارنة والسنّة، في استخفافٍ أحياناً بدور الدروز، وتهميشٍ لدور الشيعة. ومهما قيل عن نجاح المارونيّة السياسيّة في بناء دولةِ البحبوحة والرخاء، فإنَّ هذا القصور أبعد اللبنانيين عن قيام عقدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ جامع، لو حصل، لجنّبَ لبنان الويلات، في منطقةٍ شرق أوسطيّة تعيش باستمرار فوق صفيحٍ ساخن.

لمع نجم الإمام موسى الصدر في الستينات، وبعد نضال لسنوات، أسس وترأس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (16 أيار 1967)، على بعد أيام من نكسة 5 حزيران 1967، وقبل عودة الخميني (1979) إلى طهران بسنوات. “لسنا طائفيين، ولا إنعزاليين” قال، “لكننا نرفض أن نكون كمواطنين من الدرجة الثانية”. أطلق الصدر “حركة المحرومين” (1974)، أي قبل سنة من بدء الحرب الأهليّة، وأضحت حركة “أمل” التي أسسها جبهة المقاومة السياسية والاجتماعية، (والعسكريّة لاحقاً)، وفي دعواته للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، حرص على أن لا يمس بلبنان الوطن، فقال يوماً: “نريد لبنان نهائيّاً لجميع أبنائه، لا مُقسّماً ولا مُمزّقاً”. ولو لم يُغَيَّب في ليبيا، ولو قُيّضَ له أن يكون بيننا، لربما تغيّرَ دور لبنان، إلى الأحسنِ بالطبع، ولما استطاع الفكر الخميني السيطرة على الوطن، فتغييبه تغييبٌ للاعتدال الذي لا يقوم لبنان التعددي بدونه.

المعارك العسكريّة بين أمل وحزب الله، والانقلاب العسكري الخميني

كلنا نذكر، وبألم، المعارك العسكرية في إقليم التفاح بين أمل وحزب الله (1988-2000)، إنه الانقلاب العسكري في آخر أيام الخميني (توفى سنة 1989) بهدف تقوية نفوذ الأذرع الإيرانية، وعلى رأسها حزب الله الذي تأسّس سنة 1982، والتي ستكون الأداة لـ”تصدير الثورة”، واللعب على حدود الصراعات الدولية بدءاً بالحدود الإسرائيليّة اللبنانيّة. بالطبع انتهت المعارك العسكرية هذه، خاصةً بعد الـ2000 والانسحاب الإسرائيلي، بتحالفِ حجْب الدماء، أي ما نسميه “الثنائي الشيعي”. هذا التحالف الذي يخفي خلافاً إيديولوجيّاً عميقاً، بين “النجفيّة” و”الولائيّة”، وهو تحالف تقاسم السلطة والنفوذ، فأطلق يد “الأخ الأكبر” نبيه بري (الذي استولى على الحركة من رئيس مجلس النواب السابق الصدري، وعرّاب الطائف، حسين الحسيني)  فانعكس دوره في الدولة محاصصاتٍ وتغطيةً للفساد، وسيطرةً سياسيّةً على مفاصلها ومقدراتها، فـنعِم باختيار الرؤساء والحكومات، وجلس أميراً على الكرسي الثانية دون منازع حتى اليوم، يفاوض باسم الشيعة، وباسم الدولة، ولكن بالطبع بتفويض من صاحب السلاح. ومن جهة أخرى عمل الحزب بصمت على أدلجة بيئته، منذ نعومة أظافر الأطفال، وحتى مشيب الكبار، عقيدةً ولائيّةً تزفُّ أبناءها شهداء، وقرابين على مذابح طهران وطغاتها. لم تكفهِ اغتيالات المعارضين، ناشطين، ومقاومين يساريين، وسياسيين وقادة لبنانيين، ولم يكفهِ بناء بيئةٍ “حاضنة” تتربّى على الخروج عن القانون، تمتهن التهريب والجريمة المنظمة، لأنَّ ما جرى، ولمّا يزل، ما هو إلا وسيلة، والغاية تبررها، في خدمة “سيّدِ الزمان” عبر الطريق نحو الدولة الإسلاميّة المنشودة، ومع “سيّدِ المقاومة” لا هزيمة، هذا ما تكرزه الخمينيةُ عن الشهادة!

بين “نكسة” عبد الناصر، و”هزيمة” حسن نصرالله

بعد نكسة 5 حزيران 1967، وقف جمال عبد الناصر، قائد القوميّة العربيّة دون منازع، بتواضع العظماء مُعتذراً ومُقدِّماً استقالته. لعلي به، ومن قعر النكسة، أجرى مراجعةً سريعةً للنكسات التي مُنيَ بها، وأحلام العظمة التي تبددت بعد “ثورة الضباط” الأحرار سنة 1952، واستلامه السلطة من محمد نجيب سنة 1954. هو البطل الذي واجه “العدوان الثلاثي” بعد تأميم قناة السويس سنة 1956، فراح يصرف قوته في العالم العربي، فترأس “الجمهورية العربية المتحدة” مع سوريا سنة 1958، والتي انتهت إلى نقمةٍ عليه فخرجت سوريا من الوحدة سنة 1962، ناهيك بالتدخل السياسي في لبنان سنة 1958، والذي أدى إلى فتنة طائفيّة لم تنتهِ إلا بتولي فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية، وبدل أن يعود إلى مصر لمراجعة حساباته، أيّد الانقلاب على الإمام محمد البدر آخر ملوك المملكة المتوكليّة في اليمن، وأرسل سبعين ألف جندي إليها حيث تورطت مصر بحرب استنزاف أرهقتها، فسُميت فيما بعد بـ “فيتنام مصر”.

بعد حرب 2006 خرج السيد حسن نصرالله بخطاب النصر، على أنقاض الضاحية الجنوبية، وتدمير لبنان والجنوب، وآلاف الضحايا والجرحى، فهو “نصر إلهي”، والماورائيّة أطاحت بالواقعيّة، وكعبد الناصر في البدايات، بدل الانكفاء والمراجعة، وسّعَ نفوذه لخدمة “الولي الفقيه”، فهو، إذ لم يفقه قبلاً ما معنى القول إنّ سوريا دخلت إلى لبنان على دم كمال جنبلاط، وخرجت على دم رفيق الحريري، قال “شكراً سوريا الأسد” سنة 2005، فعمّقَ الشرخ بين الشيعة واللبنانيين، ومن ثمّ استغلّ تعاطف اللبنانيين مع أهلهم الشيعة خلال الحرب ليستكمل مشروع “وحدة الساحات”، ولمّا أضحى المشروع في أوجه، فلا رحمة لمن يقف بوجهه، فاحتلّ “القمصان السود” بيروت وأرعبوا أهلها في 7 أيار 2008، ودخل الحزب علنيّاً معركة النظام السوري ضد شعبه سنة 2013، وأرسل المقاتلين والخبراء إلى “اليمن السعيد” الذي أصبح بائساً، وإلى العراق، وإلى الدول الأخرى في العالم عبر شبكات التهريب، وتبييض الأموال، والعمل الأمني والمخابراتي، وسقطت صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت بيد قاسم سليماني والحرس الثوري، وأصبحت مهاجمة دول العالم والدول العربية وأصدقاء لبنان من أدبيات الخطابات الكاريزماتيّة الرنانة، وانفتحت الحدود على المال والسلاح، وبات فائض القوة يحجب الرؤيا أمام “قائد المقاومة”، فلم نتوقع منه أبداً أن يخاطب، على الأقل جمهوره، بواقعيّة، وفائض القوة أدى إلى حرب الإسناد في 8 أكتوبر 2024، وإلى الهزيمة المدوّية سنة 2025.

جمال عبد الناصر انتهى، قيّمه التاريخ، سلباً وإيجاباً، وانتهت معه “الناصرية” في مصر والعالم العربي. السيد حسن نصرالله انتهى منهزماً، ولم تستوعب بيئته بعد عمق “الهزيمة”، والإنكار هو عامل الاستمرار للأدلجة التي لم تنتهِ بعد، والأدلجة التي هي خلف السلاح أخطر من السلاح نفسه، فسحب السلاح يرسي الأمن، أما سحب الأدلجة فيؤمّن الاستقرار. هنا بالتحديد تكمن مسؤوليّة الشيعة، ومثقفيهم الذين عليهم تقع تحديات جمة وخطيرة، وقد دفع بعضهم حياته ثمناً لمحاولات إعادة التصويب، وعلى رأسهم المفكر لقمان سليم، فلا أغالي إذا قلت إنّ مستقبل لبنان التعددي الحر مرهونٌ بالشيعة، سياسيين ومفكرين ورجال دين.

فضنّاً بالشهداء، وقبل أن يصيروا ضحايا على قارعة المفاوضات الإيرانيّة-الأميركيّة، ومن قناعتي ومحبتي أقول لهم: عودوا إلى التعددية، فكوا “الثنائي” المزعوم علنيّاً، والمأزوم ضمنيّاً، لأنكم، في قرارة نفوسكم تعلمون أنَّ الوقت يدهمنا، والمتغيّرات الدوليّة والإقليميّة المتسارعة في المنطقة لا تنتظرنا، وتهميشنا خلال زيارة ترامب للمنطقة إنذارٌ وتحذير، فلا خلاص لكم وللبنان إلا بالعودة إلى فقهائكم العامليين التاريخيين، وإلى علمائكم الكبار في القرن العشرين، وإلى المشايخ و”السيّاد” المعاصرين الذين تجرّأوا على الاعتراض في زمن السطوة والإرهاب، لتصويب الإيمان فقهاً وممارسة.

وإلى “الولائيين” أقول: كعبد الناصر، قفوا أمام شعبكم واللبنانيين كالكبار واعتذروا، وإذا لم تستطيعوا أن تستلهموا الإمام الصدر “المُغَيَب”، فاستقيلوا!