"ثمن مقاومتك رصاصة".. سوريون ضحايا "عصابات تشليح لا ترحم"

قبل أسبوعين اخترقت رصاصات عدة قدمي الأربعيني السوري محمد، بعد نصف ساعة فقط من خروجه من مكتبٍ للصرافة في حمص وسط البلاد، "فبينما كان يقود سيارته سالكا شارع الستين أشهر مسلحان يستقلان دراجة نارية بندقية بمواجهته وصرخا: قف وإلا رح نقوص. حاول الهروب باتجاه طريق فرعي لكنه سرعان ما اصطدم بمنصّف الطريق ووقعت الحادثة"، حسب ما يقول أحد أقربائه لموقع "الحرة".

لم يكن الضحية يعي في البداية أنه كان مراقبا منذ بداية دخوله مكتب الصرافة وحتى خروجه منه، ويضيف قريبه أن ما تعرض له حدث مع ساعات العصر "أي في وضح النهار"، وأن الحادثة (قبل أسبوعين) أسفرت عن دخول "محمد" إلى المشفى، وسرقة 25 مليون ليرة سورية أي ما يعادل ألفي دولار، بسعر سوق الصرف الموازي.

"نجا محمد بقدرة قادر" وحتى الآن لا تزال الحادثة مسجلة "ضد مجهول"، ويتابع قريبه، الذي تحفظ عن ذكر اسم العائلة لاعتبارات أمنية، أن هذا المشهد بات حدثا متكررا بكثرة، سواء في المدينة الواقعة وسط البلاد، أو في بقية المحافظات الخاضعة لسيطرة النظام السوري.

وفي ذات المدينة، قبل أسبوع واحد، فقد الشاب السوري أيمن حياته بعدما قاوم 3 مسلحين حاولوا سرقة دراجته النارية من أمام محله التجاري لبيع أجهزة الهاتف، الواقع في مدينة تلبيسة بالريف الشمالي لحمص.

ويوضح أحد أبناء عمومة الضحية لموقع "الحرة" أن الشاب تعرض لرصاصة اخترقت صدره، وأنه وفي أعقاب ارتمائه على الأرض، أقدم 3 مسلحين على سرقة الدراجة و"بكل دم بارد".

ونادرا ما تخرج تفاصيل هكذا حوادث إلى دائرة الضوء الإعلامية، فيما تعلن وزارة الداخلية التابعة للنظام السوري بشكل شبه يومي وعبر صفحتها الرسمية في "فيس بوك" عن ضبط أشخاص ضالعين في عمليات سرقة وقتل، في مختلف المحافظات السورية.

وتشير جملة من الحوادث التي رصدها موقع "الحرة"، اعتمادا على حديث أقرباء ضحايا، إلى أن "الجرائم بهدف السرقة" باتت تأخذ منحى تصاعديا، في وقت تسفر الغالبية منها عن حوادث قتلٍ عمد، راح ضحيتها الشاب أيمن، وقبله محمد، الذي ما زال يقبع في المشفى.

"عصابات لا ترحم"

وتظهر إحصاءات المواقع العالمية المتخصصة بمؤشرات الجريمة في العالم أن سوريا تتصدر قائمة الدول العربية.

وكانت البلاد احتلت المرتبة التاسعة عالميا، للعام 2021، بحسب موقع "Numbeo Crime Index" المتخصص بمؤشرات الجريمة في العالم، بعدما كانت في المرتبة الـ32 في عام 2014، كما تقع سوريا في المرتبة قبل الأخيرة (162 من أصل 163) على مؤشر السلام العالمي، الذي تصدره "Vision Of Humanity".

ولا تعتبر حادثتا الشابين محمد وأيمن في مدينة حمص "أمرا استثنائيا"، بحسب ما يقول قريب الأول، إذ يشير إلى أن غالبية السكان في المناطق الخاضعة للنظام السوري "باتوا يعيشيون في متاهة من الخوف والقلق بسبب تصاعد عمليات السرقة".

وفقد الكثير من المواطنين، خاصة في الأرياف الواقعة إلى الشرق والشمال من حمص، ممتلكاتهم وأموالهم، بعدما اعترضتهم "عصابات تشليح لا ترحم"، حسب تعبير ذات المتحدث.

ويقول إن الحالة السائدة، رغم أنها ترتبط بسوء الواقع المعيشي الذي وصلت إليه البلاد، فإن "الاتجاه إلى القتل العمد في أثناء تنفيذ السرقة" يشي بوجود "عصابات منظمة باتت تمتهن هذا المسار لتحقيق مآرب مالية، ولاسيما أنها فقدت ذلك بسبب توقف العمليات العسكرية وما شابها على مدى سنوات من نهب وفرض إتاوات".

ويوضح مدير "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، رامي عبد الرحمن، أن "حوادث السرقة وجرائم القتل التي تتوازى معها أصبحت بالفعل تأخذ منحى تصاعديا، نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية".

ويقول عبد الرحمن لموقع "الحرة" إن هذه الحالة لا تقتصر على منطقة جغرافية معينة، بل تشمل، بحسب توثيقاتهم، مدينة دمشق والساحل وحماة وحلب، وبقية المناطق السورية.

ومنذ بداية شهر يوليو الماضي دخلت المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري في دوامة غلاء غير مسبوقة وأزمة معيشية، فرضها التدهور المتسارع لقيمة الليرة السورية، وما رافق ذلك من انعدام القدرة الشرائية للكثير من المواطنين.

ولا يعتبر تدهور الأوضاع المعيشية في سوريا جديدا. ومع ذلك يعتبر المشهد الحالي الأشد قسوة قياسا بما عاشه المواطنون خلال السنوات الماضية.

ويعتقد الصحفي السوري، مختار الإبراهيم، أن "تصاعد حوادث السرقة وجرائم القتل يرتبط بتردي الأوضاع المعيشية في الداخل السوري".

و"تدفع الأزمة المعيشية في الداخل السوري الكثير من الناس لامتهان السرقة"، وفق الإبراهيم.

ويشير إلى حادثة شهدتها مدينة طرطوس، قبل أيام، إذ أقدم عنصر يعمل في شركة حراسات أمنية على سرقة 10 ملايين ليرة سورية من مكتب شركة الاتصالات "إم تي إن".

ورغم أن المبلغ المذكور لا يعادل شيئا أمام الدولار الأميركي، إلا أن الصحفي السوري يرى أن "تفاصيل الحادثة تشير إلى وجود اندفاعة لفعل ذلك بهدف تحصيل ولو القليل من المال".

"عاملان أمني واقتصادي"

وتعكس الجرائم "حالة من اليأس وانعدام الأمل وعدم الثقة بوجود أي حل في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، رغم كل المقترحات التي وعد بها مجلس الشعب السوري أو المصرف المركزي".

ويتابع الصحفي الإبراهيم لموقع "الحرة": "هناك حالة كبيرة من انعدام الثقة والأمل تدفع الناس لامتهان السرقة".

وتشير دراسة للباحث في مركز "عمران للدراسات الاستراتيجية"، محسن مصطفى، إلى أن الموظفين في سوريا لا يعتمدون على رواتبهم التي لا تكاد تكفي عدة أيام، بل على مصادر دخل متنوعة.

ومن هذه المصادر: الحوالات المالية القادمة من الخارج، أو العمل بوظيفة ثانية في القطاع الخاص، بالإضافة لذلك قد يمتد الاعتماد على مصادر دخل غير مشروعة نتيجة الفساد المالي والرشاوى في الدوائر والمؤسسات الحكومية.

أما بالنسبة للعسكريين، وبالرغم من الزيادات الخاصة بهم، فهناك مصادر أخرى للدخل جميعها غير مشروعة، سواء عبر عمليات التعفيش (السرقة من قبل عناصر مجندين) أو الإتاوة وفرض الخوّة (رسوم غير شرعية) على المدنيين والسيارات التجارية العابرة على الحواجز.

ويضاف إلى ما سبق عمليات الفساد المالي المتعلقة بعمليات الشراء والعقود والمناقصات التابعة لوزارة الدفاع، التي تشرف عليها لجان المشتريات في الوحدات العسكرية، كل على حدا، حسب الدراسة المذكورة.

وتظهر سياسة النظام بما يتعلق بالرواتب، بأنها "دافعة نحو عسكرة المجتمع وتحويل العسكرة لمهنة كبقية المهن، وهو ما تم فعلا من خلال التعاقد معهم كمرتزقة ضمن الميليشيات أو إرسال المرتزقة إلى مناطق نزاع مسلح تحت إشراف روسي".

وهي "دافعة أيضا نحو الهجرة، تُضاف لمجموعة من العوامل الأخرى الدافعة لها، خصوصا لأولئك المتعلمين وأصحاب الشهادات العلمية".

ويرى الباحث السوري في "مركز جسور للدراسات"، وائل علوان، أن تصاعد حوادث السرقة وجرائم القتل التي ترافقها يقف ورائه عاملان رئيسيان، الأول يتعلق بـ"الخلل الأمني، وغياب القانون وغياب الاستقرار".

ولا يزال الخلل المذكور والظروف الذي ترافقه تخيم على سوريا، حاليا، مع وجود ميليشييات ما دون الدولة، ووجود ما يعرف بـ"الشبيحة" وتسلط الأفرع الأمنية بشكل غير منضبط على الناس.

أما العامل الثاني فيرتبط بـ"التدهور الاقتصادي والمعيشي"، وبالتالي "سهولة تجنيد الكثير من العاطلين عن العمل ضمن مجموعات تمارس عمليات الاختطاف والسرقة وكل أنواع عمليات الكسب غير المشروع".

ويقول علوان لموقع "الحرة": "بشكل أو بآخر تكون هذه المجموعات مرتبطة بحالة الفلتان الأمني وحالة عدم وجود بيئة يضبطها وينظمها القانون، لأن ظروف سوريا تحكمها بيئة حرب وبيئة مجموعات أمنية لا تسيطر عليها الدولة".

حالات فردية أم منظمة؟

تظهر بيانات متكررة لوزارة الداخلية السورية أن حوادث السرقة والقتل تنسحب على عموم المحافظات السورية، وحتى أن البعض منها نفذتها شبكات يقودها شبان صغار في العمر، واستهدفت قطاعات تتبع للدولة.

ويوضح سامر، وهو صحفي مقيم في العاصمة دمشق، أن "هناك تصاعدا كبيرا وغير مسبوق لحوادث السرقة والقتل، ومرده بشكل أساسي الوضع الأمني والمعيشي السيء".

"الكثير من السكان لم يعد يخبروا أحدا في حال أرادوا حمل مبلغ أمني معين، لاعتبار يتعلق بغياب هوية من ينفذ السرقات وأفراد العصابة، إذ أنهم قد يكونون من أقرب المقربين".

ويقول الصحفي لموقع "الحرة": "الفقر والجوع في البلد يدفع الأشخاص العاطلين عن العمل والمجندين ضمن ميليشيات للعمل ضمن عصابات تشليح وسرقة".

وكانت هدف هذه العصابات في الفترة السابقة الدراجات النارية كون عملية سرقتها "سهلة"، لكن ومع تردي الواقع المعيشي تحولت إلى مسار تنظيمي أكبر، وباتت تخطط لاستهداف محال تجارية وتجار أثناء عودتهم من أسواق الهال أو أسواق المواشي.

ويرى الباحث السوري علوان أن "حوادث السرقة المنظمة باتت السائدة في مناطق سيطرة النظام السوري، ولم يعد الأمر فرديا".

ويقول إن "معظم المجموعات التي تمتهن السرقة والخطف تتاجر بالمخدرات، ومرتبطة بالأفرع الأمنية ومجموعات ما دون الدولة".

ويشير إلى ذلك الصحفي المقيم في دمشق، بقوله إن "العصابات معروفة بتبعيتها للفرقة الرابعة والأمن العسكري"، وأن "الدولة أعطت السلاح لهم في السابق وأبقته معهم، وفي حالة مقاومتهم قد يكون ثمن الروح رصاصة".

ويتابع: "المشهد بالعموم يشي بعدم وجود مفهوم الدولة والقانون. الشرطة تسجل ضبط في حوادث القتل والسرقة وينتهي الموضوع. هذا أكثر ما يحدث"، حسب تعبيره.